الخميس، 28 فبراير 2013

مستقبل الحرية



   عرض الكاتب الصحفى "رضا هلال" بالأهرام فى 8 من أغسطس 2003 لكتابين مختلفين آثارا صخبا فى الولايات المتحدة.. أحدهما لكاتب أمريكى مسلم، هندى الأصل هو "فريد زكريا" بعنوان "مستقبل الحرية".. يفرق فى مقدمته بين نوعى الديمقراطية التى أخذت بها أوروبا، وانحرفت بها المانيا بعد صعود هتلر، والنازيين الفاشيين الى الحكم، ثم اغلاق الباب خلفهم، أو الصعود ثم الاطاحة بالسلم - على حد تعبيره - الأمر الذى كلف المانيا، وأوروبا ثمنا باهظا، وهو مايرمى به رضا هلال التيار الاسلامى فى العالم العربى الذى لايؤمن كثيرا بالديمقراطية؛ الا بالقدر الذى يصل به الى الحكم..
   ويبرىء الكاتب الأمريكى الاسلام من مأزق الأخذ بالليبرالية بأن الفقة الاسلامى قد تطور فى القرنين السابع، والثامن.. وليس فيه كثير من الأفكار التى ترتبط بديمقراطية اليوم.. وهو يرى أنه اذا اقتصرت الديمقراطية على الانتخابات فقط فهى تسمى "الديمقراطية غير الليبرالية".. أما "الديمقراطية الليبرالية".. فلا ديمقراطية بلا ليبرالية.. وهذا هو المفهوم العام لها فى أوروبا، وأمريكا.. والليبرالية تقوم أساسا على منظومة من الأفكار مثل:
1- قبول وجود الآخر المختلف..
2- احترام الأغلبية للأقلية..
3- نسبية الحقيقة..
4- قبول الأقلية لحكم الأغلبية..
5- حرية الاعتقاد والتعبير والاختلاف وحمايتها..
6- حكم القانون..
7- فصل السلطات..
8- حرية التنظيم وحرية الاجتماع..
9- الحرية الدينية..
10- الحرية الملكية..
 11- حرية العمل والتجارة..
   ولنا تعليق..
-         هل العالم الغربى الذى أفرز هذه الديمقراطية الليبرالية قد نجح فى تجاوز مشاكل البطالة؟..
-         هل حقق مبدأ التوزيع العادل للدخل؟..
-         أليس فى المجتمع الغربى غزير الثراء؟.. وشديد الفقر؟..
-    أليس مجتمع اقتناص الفرص، وجمع، وتخزين الأموال؟.. وعدم المبالاة بالفقراء، والمحتاجين لكونهم أغبياء لايستحقون العيش؟..
-    ولماذا لايتركون الشعوب الفقيرة فى حريتهم، وثرواتهم دون الاستعمار، أو التدخل فى الشئون الداخلية، والابتزاز، وفرض الاتاوات؟..
   أما الكاتب الآخر الذى عرض له رضا هلال فهو "نوح فيلدمان" أستاذ مساعد القانون بجامعة نيويورك، وقد حصل على الدكتوراه فى الفكر الاسلامى من جامعة أكسفورد البريطانية، ودرس اللغة العربية منذ كان فى الخامسة عشرة، وقد اختارته أمريكا ليكون مسئولا عن اعداد الدستور الجديد فى العراق المحتلة، وهو اليهودى الذى سيضع دستورا لدولة عربية مسلمة!.. وكتابه المعروض هو "ما بعد الجهاد.. أمريكا والصراع من أجل الديمقراطية الاسلامية".. وهو يقرر أن الاسلام، والديمقراطية غير متناقدين.. بل متوافقين، وأنه لاخطر من الاسلاميين اذا تولوا الحكم، والسلطة عبر انتخابات حرة.. لأنهم سيقيمون الدولة الاسلامية التى ستكون أكثر ديمقراطية من الأنظمة القائمة، وأقل عداء لأمريكا، واسرائيل، وهو يعلن أن الارهاب الاسلامى قد استنفد أهدافه الأخيرة بهجمات 11 من سبتمبر 2001، ولم يبق فى جعبته سوى الجهاد من أجل الديمقراطية، ويعتقد أن التعاون مع الاسلاميين المعتدلين، والأحزاب الاسلامية سيعمل على وصولهم للحكم من أجل تعميق السلام مع اسرائيل الذى سيكون شعبيا(تطبيعا)لأن النظم الحالية التى تدعمها أمريكا هى سبب العداء لها، ولاسرائيل، واذا مافشلت خطة صعود الاسلاميين من هذا المنطلق.. فعلى أمريكا استخدام القوة العسكرية، وهو يستبعد من خطته الاسلاميين المتشددين مثل ملالى ايران، وطالبان أفغانستان، وينتقد رضا هلال المؤلف متسائلا: ومن يضمن أن الاسلاميين لاينحون الديمقراطية جانبا اذا وصلوا الى الحكم؟.. ومن يضمن المساواة بين الرجل، والمرأة؟.. والمساواة بين المسلمين، وغير المسلمين؟.. وأن يكفلوا حرية الاعتقاد، وحرية التعبير، وحق الاختلاف دون تكفير..

الأربعاء، 27 فبراير 2013

ابراهيم أبو الأنبياء




   عن كتاب الأستاذ عباس محمود العقاد "إبراهيم أبو الأنبياء".. طبعة نهضة مصر..
- إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد، واقترنت بالعبادة إلى ما فوق الطبيعة، والجثمان..
- إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل ينظر إلى العقل؛ كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، ومن هنا صدرت كفكرة عظية عن الكون من عقل فيلسوف مؤمن  بالوحدانية، وان لم تبلغه دعوة الأنبياء..
- فالتوحيد لم يكن مجهولا قبل عصر إبراهيم ،  وكذلك عبادة "الحقائق" فوق الطبيعة،  وفوق مطالب الأبدان، كان المصريون الأقدمون يؤمنون بالإله الواحد، وكان من معتقداتهم إن للروح في العالم الآخر ميزان يقدر لها الحسنات، والسيئات، ولكنها لم تكن دعوة نبوة، ورسالة، ولعلها جاءت في زمن لم تتهيأ فيه النفوس للعلم بالوحدانية، ونبذ الشرك، وتعدد الأرباب..
   ثم يعود فيقول:
-"وكانت في جملتها دعوة كهان يسترون ما يعلمون، ولا يبوحون للناس بأسرار الديانة الابمقدار"..
-"المشنا": أهم المرجع الإسرائيلية  بعد "التوراة"..
- ولأن "المقرأ": ما يحفظ بالقراءة في الكتب؛ وهو نصوص التوراة المعتمدة،  "فالمشنا": ما يحفظ بالذكر، والاستظهار، ومنه "التلمود" على نشأته الأولى..
- وأصل مادة الكلمة من "شنا".. أى "كرر"، وهى تقابل في العربية مادة "ثنى" بمعنى أعاد ثانية، وترجع مأثورات "المشنا" إلي أيام النفي في بابل، حيث كانت عشائر من اليهود منفية عن فلسطين..
- وكان الغرض من "المشنا" تفسير التوراة، والتعليق عليها، وقد وضعت المشنا في القرن الثاني للميلاد، ومعظمها محفوظ بالعبرية العامية، واشتملت عند جمعها على ستة أقسام، والأقسام ثلاثة وستين فصلا، واشتملت الفصول على نبذ تبلغ خمسمائة وثلاثا وعشرين، أضيف إليها نبذة بعد ذلك، والأقسام هي:
1- قسم الزرع:  خاص بالمزروعات..
2- قسم الموعد:  المواسم، والأعياد..
3- قسم النساء: الزواج، والطلاق..
4- العروض والتعويضات: المعاملات..
5- المقدسات: شعائر العبادة..
6- الطهارة: التطهير لأداء الفرائض..
- وزيدت كتب عن المشنا في العصور الحديثة، وضعها كهان أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد تسمى"التصافوت".. ومعناها الاضافات ، وهناك مأثورات، وأحكام خارج المشنا تنقل بالرواية تسمى "البرايتا"، أو "البرانية"..
   ومن تحميص المشنا القديمة اختيرت طائفة من الأحكام المتفق عليها تسمى  "الجمارة"، أو "التكملة"،  ومن مرويات المشنا، والجمارة تجتمع كتب التلمود، وهما "تلمود بابل"، و"تلمود فلسطين"، ولا يحتوى التلمود على كل مافى المشنا، والجمارة..
- وتعرف بعض المأثورات الإسرائيلية باسم "المدراش"، أو الدراسات، وهى تتضمن أقوال الفقهاء، وحواشيهم على النصوص، وهى درجات عند اليهود؛ فمنهم من يعتبرها من قبيل القصص التعليمية، والأمثال الوعظية للاعتبار، ولا يقصد بها التاريخ، أو الاعتقاد، ويظن بعض الشراح الالمان أن من المدراش نبذ منقولة عن اللغة العربية، بل إن بعض العبارات ترجمة حرفية من القرآن الكريم..
- تطورت دعوة إبراهيم كما تلقاها اليهود في عصر الميلاد في ثلاث مسائل من كبريات المسائل الدينية؛ هي مسألة الحياة بعد الموت، ومسألة الوعد الالهى للشعب المختار، وعلاقته بالقومية، أو الإنسانية، ومسألة الشعائر، وعلاقتها بالروحانيات،  والجسديات؛  ففي عصر الميلاد كانت طائفة كبيرة من اليهود، وهى طائفة "الصدوقيين" تنكر القيامة بعد الموت، ولا ترى في الكتب الخمسة دليلا واضحا عليها، وكانت الطوائف الأخرى تؤمن بالثواب، والعقاب على الجملة، ولكنها لا تتوسع في وصفها، ولا ترجع في هذا الوصف إلى سند متفق عليه، وفى أذهانهم صورة غاضمة عن وجود الموت في هذا العالم، ولكن بعد ظهور المسيحية ظهرت ملامح الثواب، والعقاب في العالم الأخر..
-"موجز التعليقات الحديثة على الكتاب" من تأليف ثلاثين عالما من علماء اللاهوت في انجلترا ، وكلهم من المطلعين على كشوف الآثار التي لها علاقة بتواريخ التوراة، والإنجيل؛ يقول الكتاب:
-"وكان الرعاة الهكسوس(هاك شاسو) يحكمون مصر من الأسرة الثالثة عشرة إلى الأسرة السابعة عشرة، وفى هذه الفترة حدثت هجرة الآباء العبريين إلى الديار المصرية"..
   وهناك كتاب أخر أوسع شرحا طبع طبعته المنقحة سنة 1952 عنوانه "تعليقات موجزة على الكتاب"، تأليف "جوزيف أنجوس Angus " من أكبر فقهاء اللاهوت؛  يقول مؤلفه:
-"وكانت مصر عند هجرة إبراهيم، ثم هجرة يعقوب ولاية خاضعة لحكم الرعاة المكروهين الذين تسلطوا على مصر أكثر من خمسمائة سنة، ومن ثم كان الترحيب "بيعقوب"، و إقطاع قومهم أرضا في البلاد .. 
   وفى تعليقات "هالى Halley " يضع "للحوادث المصرية" مقابلا من "حوادث التوراة"؛ فيضع عصر "إبراهيم" مقابلا للأسرة الثانية عشرة حوالي 3000 قبل الميلاد، وعصر "يوسف" مقابلا للأسرة السادسة عشرة 1800 قبل الميلاد على سبيل الاحتمال، وعصر "موسى" مقابلا للأسرتين الثانية عشرة، والتاسعة عشرة بين سنتي 1500، 1200 ق. م...
   في تقديرات هالى، ومدرسته نحو ألف ومائتي سنة بين عصر إبراهيم، وعصر يوسف مع اعتماده أحيانا على نقوش الآثار خاصة كشوف بعثة "البرايت و كيلي
Albright and Kyle " سنة 1924..
   ومن أصحاب التعليقات التوارتية المعروفين بالتحرج في التقدير "لوثر كلارك
Clarke"؛ وهى من أكثر التعليقات حجما، وهى تضع عصر "حمورابى" حوالي سنة 1900 ق.م.، وعصر "الآباء العبريين" في كنعان بين سنتي 1900، 1700ق.م.، ونهاية عصر "الهكسوس" حوالي سنة 1550 ق.م...
   يقول الأستاذ البرايت Albright وهو أحد أصحاب بعوث الكشف عن الآثار:    
-"فنحن نعلم اليوم أن مسألة الهكسوس لا بد أنها ترجع إلى الفترة بين سنتي  1720،
1550 ق.م.، وأن قيادة الهكسوس في يد "الساميين"، ولم تكن "حورية"، أو "هندية آرية" كما كان بعض العملاء يقدرون إلى زمن قريب"..
   وهناك مرجعان من مراجع الشواهد هما "أطلس وستمنستر التاريخي"، و"موسوعة وستمنستر" المنقحة سنة 1944، وهما خاصان بجغرافية التوراة، والعهد الجديد، وتاريخها، وقد توفر على تأليفهما من وجهات النظر المتعددة نخبة من علماء هذه المباحث المشتغلين في الكتب الأثرية، والكتب العصرية بدرسها في الآثار، والحفريات، وبالإطلاع على سجلاتها، ومدوناتها..
   وجاء في الأطلس:
-"وان حفائر "توزى" في ودى الفرات الشمالي اشتملت على وصف عادات اجتماعية تفسر عادات الإرث، والزواج، وأصنام الأسرة( الطرافية) التي أشارت إليها كتب التوراة، وما بعدها من الكتب القديمة، وهذا عدا الآثار التي معها أخبار الطوفان، وأخبار الخليقة مما لا نظير له في مأثورات مصر، أو كنعان"..
   ومن الطبيعي أن يعنى الأطلس با لمواقع الجغرافية في سياق التاريخ، وكذلك عنى في سيرة إبراهيم بمواقع رحلاته إلى مصر في ذهابه، وعودته، ومنها أرض الجنوب بين قادش، وشور، وتعرف الآن باسم وادى غزة، وهو واد كان له شان في تاريخ بنى اسرئيل إلى ما بعد خروجهم من الديار المصرية.. 
   أما الموسوعة هي تذكر أن تاريخ حمورابى وضع في عصور مختلفة بين سنة 2123 وسنة 1830 ق.م.؛  ثم عادت فقالت إن الكشوف الحديثة ترجح وضعه بين سنتي 1792، 1750، أو 1749، وان شريعته المشهورة مقاربة للشريعة الموسوية في سفر الخروج من التوراة، وان أسلوب المواد يتشابه في ابتداء الجمل  كما تتشابه العقوبات، ولاسيما عقوبات القصاص، وبعيد أن تكون شريعة حمورابى أمام المشرع العبري عند تدوين أحكامه، ولكن المحتمل أن الشريعتين ترجعان إلى أصل سامي قديم..
   وترى الموسوعة – اعتمادا على تقدير الأسقف "يوثر" –  أن مولد إبراهيم يوافق سنة 1996 ق.م.، وفى رواية سفر التكوين أن" سدوم"، و"عمورية" دمرتا في حياة إبراهيم: فيقدرها الأسقف يوثر بحوالي سنة 1898 ق.م...
   ثم يعود العقاد ليسير سير الماديين فيقول عن ضيف إبراهيم الذي ذكر القرآن أنهم ملائكة، وذكرهم سفر التكوين بأنهم يأكلون، ويشعبون من الطعام، وفى بعض النسخ يفهم أن أحدهم كان الإله نفسه، ثم أصبح مفهوما أنه ملك يتكلم باسم الإله، ومعه صاحباه من السماء؛ فيقول:
-"إن هذه النقلة ليست بالأمر الهين في تاريخ بنى الإنسان؛ فهذا الانتقال بين العقل الذي يقصر عن إدراك مخلوق سماوي يخالف الأجساد الحية في مطالبها المادية، وبين العقل الذي تهيأ للتمييز بين الحياة الروحية، والحياة المادية هو الانتقال الذي يؤرخ به عصران في حياة بنى الإنسان"..
   ثم يتحدث في أمر الأحاديث الورادة عن الأنبياء خاصة إبراهيم عليه السلام فيقول: -"فمن اليهود الذين أسلموا "كعب بن مانع" الحميرى الذي اشتهر باسم "كعب الأحبار"، كان من علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن أبى بكر، وعاش في المدينة زمنا، ثم خرج إلى الشام بعد مقتل عمر، فأقام بحمص ومات فيها، ومنهم "وهب بن منبه"، وهو أيضا من يهود اليمن، وكان من أبناء الفرس الذين أرسلهم "كسرى" إلى اليمن، ثم أسلم، وتوفى في عهد الدولة الأموية، وكلاهما كثيرا الرواية، والنقل عن الكتب الإسرائيلية، ويظن بهما أنهما وضعا كثيرا مما روياه من أحاديث منسوبة الى انبى صلى الله عليه وسلم"..
   وكان الفاروق "عمر"، والإمام "على" رضي الله عنهما ينهيان كعب الأحبار عن الإفاضة في رواياته، و أساطيره، ولكن كعب الأحبار، وأمثاله قد طاب لهم أن يتحدثوا بتلك الأساطير التي ينفردون بدعواها؛ فأفرطوا فيها، وجعلوا يطرقون السامعين بجديد كلما نفد قديمهم المعروض، وأمنوا من السامعين إقبالا على هذه البضاعة التي لا يزاحمهم  فيها أحد من المسلمين..
   فإذا دخل عالم من العلماء اليهود في الاسلام أمن له المسلمون، وبالغوا في العلم الذي سبقه اليهم أهل الكتاب، وكذلك فعل كثير من المفسرين، وبالغوا في الطمأنينة إلى أولئك الرواة، وفاتهم أنهم إن سلموا من "سوء النية"؛ لم يسلموا من "الجهل"، وضعف السند، وقلة التثبت، والتحميص..
   ويقول العقاد عن تجاهل أبناء إسماعيل العرب في التوراة:
-"لقد سكتت مصادر اليهود عن حالة العرب الدينية كل السكوت، وترجع هذه المصادر إلى القرن السابع  ق.م.، وقد تعمدت هذه المصادر أن تخرج أبناء اسماعيل من حقوق الوعد الذى تلقاه ابراهيم من الله، وقالت ان هذا الوعد انما هو حق لأبناء ابراهيم من سلالة إسحاق"..
   إن انتساب العرب إذن إلى إسماعيل قد كان تاريخا مقررا للسبيل إلى إنكاره عند كتابة المصادر اليهودية التي حصرت النعمة الموعودة في أبناء إسحاق، ولو لم يكن أنساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم تاريخا مقررا في ذلك العصر – عصر كتابة المصادر اليهودية الأولى –  لما كانت بهم حاجة إلى التمييز بين أبناء إسماعيل اذ كان يكفى أن يقال إن النعمة الموعودة من نصيب أبناء إبراهيم عامة ليخرج من هذا الوعد من لم يكن من اليهود الذين لا ينازعهم أحد في الانتساب إلى إبراهيم..
   ولا شىء غير خطر المنافسة في النسب، وخطر المنافسة في العقيدة الدينية يلجىء الكهان إلى حصر النعمة الموعودة في أبناء إسحاق دون أبناء إبراهيم، وقد لوحظ أن الكهان يحصرون النسب شيئا فشيئا كلما أحسوا خطر المنافسة على سلطانهم، وسلطان هيكلهم؛ فقالوا:
-"إن الاسرائليين هم أبناء يعقوب دون غيره، وإسرائيل هو لقب يعقوب"..
   ثم انقسمت دولة اليهود إلى شمالية تسمى "مملكة إسرائيل"، ودولة جنوبية تسمى "مملكة يهوذا"؛ فقال كهان الهيكل:
-"إن النعمة الموعودة محصورة في أبناء داود"..   وقبل ذلك بزمن طويل كان "اللاويين" قبيلة موسى الكليم.. 
   ولعل المنافسة في الحقيقة كانت بين الايمان "بيهوا"، والايمان "بالايل"، أو "الإله"،فان العرب الأقدمين لم يذكروا "يهوا" قط بين أربابهم، وإنما ذكروا "الايل"، و"الإله"، و"الله تعالى"، وكان اليهود يعبدون الايل كما يعبده العرب، ومن ذلك تسمية "إسماعيل"، و"إسرائيل"، و"بتوئيل"؛ فلما تشابه النسب بالانتماء إلى إبراهيم، وتشابهت العبادة بالاتفاق على اسم الإله، جدت الرغبة بالكهان في الاستئثار من جهة، والاستثناء من جهة أخرى؛ فحصروا النعمة الموعودة في أبناء إسحاق، ثم في أبناء يعقوب، ثم في أبناء داود جريا على عادتهم المطردة في أمثال هذه الأحوال..
   إن المراجع الإسرائيلية قد سكتت عن بعض الأمور، ولم تستوعب أمورا أخرى في سجلاتها المحفوظة، وهناك نقص في المصادر اليهودية حتى في أخبار البلاد المجاورة لمملكة إسرائيل؛ فان المصادرالاسلامية أوفي بأخبار هذه البلاد من مصادر اليهود؛ فكتب اليهود لم تذكر قط "عاد"، و"ثمود"، وانفراد القرآن الكريم بذكرها؛ مع ما جاء عنها في المأثورات العربية، ولولا أن عادا، وثمود قد وردا في "جغرافية  بطليموس" لزعم المشككون أنها احدى الخرافات، ولكن اسم عاد  oadita، واسم ثمود Thamudita قد وردا في جغرافية بطليموس؛  وليس  موقعهما كما وصفه الجغرافي الكبير بعيدا عن مملكة إسرائيل، فإذا كان بطليموس قد سمع بهما فلا يعقل أن يكون أمرهما مجهولا عند كتاب العهد القديم، وإنما المعقول أن السكوت عن كل رسالة في أبناء إسماعيل هو المقصود..
   بلاد الشعوب التي تعرف بالسامية – أو على الأصح بالعربية – هي شبه جزيرة العرب، ومنها هاجرت بعض القبائل  إلى بلاد الهلال الخصيب بين وادي الفرات، والبحر الأبيض المتوسط، وهاجرت قبائل أخرى إلى الحبشة في افريقية، والرأى الغالب أن الهجرة تتبع طريقها من جنوب الجزيرة إلى شرقها في محاذاة البحر الهندي؛ فالخليج الفارسي؛ فنهر الفرات إلى أقصاه شمالا، ويرتفع بعض المؤرخين بأول فوج من أفواج الهجرة العربية إلى القرن الثلاثين ق.م. ثم تتابعت الأفواج..
   فالآشوريين، والأكاديين، والبابليين، والكلدانيين هم أفواج متلاحقة على فترات متباعدة؛ تترواح الفترات بينها من ستمائة إلى ألف سنة، لأن الأقاليم الشمالية في وادي النهرين كانت أخصب الأقاليم، وأصلحها للزراعة، والرعي، وكان معظم الرحلة للتجارة مع القوافل التي تذهب، وتعود، ولا يبقى منها في الشمال إلا العدد القليل، وكان سلوك القوافل بين اليمن، والعقبة على طريق البر أيسر من سلوكها بحرا مع قلة السفن، واعتماد العرب في أسفارهم على الجمل الذي سموه بحق "سفينة الصحراء"..
   وربما حدث مرات أن يوغل العرب الشماليون جنوبا، كلما ضاقت بهم مساكنهم أمام المغيرين عليهم، أو حاقت بهم نكبة من الزلازل، والصواعق؛ وهى كثيرة في تلك البقاع، كما ظهر من أثارها الباقية إلى هذه الأيام، ولذا يعتقد المؤرخون أن اليمن هي مصدر العربية الأول، ويقولون ان العرب العاربة هم أهل اليمن، ثم يليهم العرب المستعربون، وهذا ان صح من الانتساب فلا يصح من حيث الارتقاء باللغة العربية، فاللغة العربية الأولى في اليمن لم تبلغ من الصقل، والفصاحة، وانتظام القواعد ما بلغته لغة الحجاز،  وعلة ذلك أن الدول الكبرى في تلك العهود لم تكن موحدة الحكومات؛ بل كانت منقسمة موزعة يتولاها في الوقت الواحد ثلاثة أمراء، أو أربعة، أو أكثر من ذلك(تعليق: هذا يؤيد ما جاء في القرآن من أن "يوسف" عليه السلام رفع أبويه على العرش؛ وهو عرش خاص به غير عرش الملك، وكما تحدث عن "بنى اسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام"عندما ورثوا ملك فرعون في مكان ما في سيناء)..  ففي مصر كان المظنون أن ترتيب الأسر متعاقب، ثم ظهر من النقوش المتوافقة في الزمن أن الأسر "الثانية عشرة"، و"الثالثة عشرة"، و"الرابعة عشرة"؛ حكمت في عصر واحد بين أقاليم "الوجه البحري"، و"الصعيد"(تعليق: كان الملوك "الهكسوس" في الوجه البحري، وعاصمتهم "أواريس"، وكانت "أسرة طيبة" في الصعيد)؛ وأن من هؤلاء الهكسوس من كان يرسل الهدايا، والإتاوات إلى ملوك الصعيد..
   كان هجوم "الهكسوس" على مصر معاصرا لهجوم قبائل البدو من "عيلام"، و"عمور" على بابل، وكانت الأرض التي في طريق مصر موزعة بين العمالقة "الحيثيين"،  و"اليبوسيين"، و"العموريين"، وليس بينهم ذكر "للعبرانيين" الذين يسمون أنفسهم "بأبناء إسرائيل"، ولم يذكر لهم اسم في أثر من الآثار التاريخية قبل سنة 1220 ق.م. الذي يروى فيه الفرعون "مرنبتاح" خبر حملته التأديبية على "عسقلان"، و"جزير"، و"يوانام"، و"إسرائيل"؛ فيقول انه محا إسرائيل فلم تبق منها باقية، ويؤيد خبره هذا أن النصب الذي أقيم بعد ذلك مسجلا لانتصار "رمسيس الثالث" على "العموريين"، و"الفلسطينيين"، و"الحيثيين" سنة 1190ق.م. لم يرد فيه ذكر لإسرائيل..
   وعصر إبراهيم قبل هذه الفترة على التحقيق فمن القرن الثاني عشر، الى القرن الثامن عشر ق.م. لم يكن لإبراهيم، وذريته مقام في غير الجنوب عند "جيرار"، أو وراءها جنوبا، ولم يكن لإبراهيم مقام في "حبرون"..
   كان العبريون الى أيام موسى يشترون المرعى، والمورد فيها بالفضة، ولم يستطيعوا أن يدخلوا "فلسطين" الا بعد ضعف "العموريين"، و"الحيثيين"، و"الهكسوس"( تعليق: كما روى القران أن فيها "قوما جبارين")، ومن حقائق التاريخ المطردة أن "الملك هو بلاء القبائل الرحل"، فلما ملك الحيثيون، والهكسوس ضاعوا، واندحروا، ولما هجم العموريون على بابل فملكوها ضاعوا، واندحروا في "بابل"، وفى "بيت المقدس"، ولما دخل العبريون أنفسهم بيت المقدس، وملكوا فيها ضاعوا، واندحروا، وحاق بهم ماحاق بالقبائل الاولى(تعليق: وسيحدث هذا لإسرائيل التي تجمعت من كل مكان في أرض الميعاد المزعومة كما أنبأ القرآن، وسوف يحدث هذا لرعاع أمريكا أيضا)، فالملك هو نهاية كل قبيلة من تلك القبائل، وقد ظلت كلها قبائل نامية الي أن ملكت؛ فانتهت بذلك الى دورها الأخير..
   ربما كان من المفاجآت أن إبراهيم عليه السلام كان عربيا، وأنه يتكلم اللغة العربية؛ وهى ليست بالضرورة اللغة العربية التي نكتبها اليوم، أو نقرأها في شعر الجاهليين، ومن عاصرهم من العرب الأقدمين، وإنما اللغة العربية المقصودة هي لغة الأقوام التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية، وتهاجر منها، واليها في تلك الحقبة، وقد كانت لغة واحدة من اليمن الى مشارف العراق، والشام، وتخوم فلسطين، وسيناء..
   وقد عرفت تلك اللغة حينا باسم "اللغة السريانية" غلطا من اليونان في التسمية، لأنهم أطلقوا اسم "آشورية"، أو "أسورية" على الشام الشمالية، فشاعت تسمية العربية باسم "السوريانية"، و"السريانية" من المكان الذي أقامت فيه بعض قبائل العرب الوافدة من شبه الجزيرة منذ أقدم العصور قبل عصر إبراهيم بزمن طويل، واشتملت اللغة السريانية في بعض الأزمنة على عدة لغات لا تختلف فيما بينها الا كاختلاف لهجات القبائل العربية قبل الاسلام، ومن هذه اللغات لغة "آرام، و"كنعان"، و"أدوم"، و"موآب"، و"مديان"، وما جاورها في الأقاليم الممتدة بين العراق، وسيناء، ولم يكن الخليل إبراهيم عبريا، ويفهم الناس أن "العبرية"، و"اليهودية" كلمتان بمعنى واحد، فالعبرية في نحو القرن العشرين قبل الميلاد كانت كلمة عامة تطلق على طائفة كبيرة من القبائل الرحل فى صحراء الشام، وكان من أبناء هذه القبائل من يعمل كالجنود المرتزقة هنا، وهناك، وبهذا المعنى وردت كلمة "العبري"، و"الابرى"، و"الهبرى"، ولم يكن هناك وجود لليهود في ذلك الوقت..
   وقد لوحظ التقارب بين اللغات، أو اللهجات العربية فيما هو أقدم من ذلك كثيرا، بحيث لا يحسب تاريخه بأقل من ألفى سنة ق.م.، فان أداة التعريف، وضمير المتكلم، والغائب، وكلمات النفي، والنهى، وتصريف الأفعال مشتركة في اللغة العربية، واللغة الآشورية التي تنسب إليها السريانية كما تقدم..
   لم يكن تاريخ إبراهيم عليه السلام مستمدا من المصادر اليهودية كما زعم بعض المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية ، وأن هذا بينة من بينات شتى على أن دعوة إبراهيم لم تصل الى الحجاز من المصادر اليهودية، وهى أن تسمية "آزر" كان يمكن أن تكون "تارحا"، أو "تيرحا"، أو "تيرة"، أو ما شابه هذه  التصحيفات.. والبينة الكبرى التي تأتى من مباحث اللغة هي التقارب الشديد بين لغة "الحجاز"، ولغة "النبط"، أو "النباتيين" الذين ينتمون الى من "نبات" من أبناء "إسماعيل"..
   ومما يدعو الى احترام روايات النسابين في هذا الباب أنهم عرفوا الحقيقة التي كشفها علماء الأحافير في الزمن الأخير؛ فقال ابن عباس:
-"معاشر قريش من النبط"..
   وربما اختلفوا في مسألة الكتابة لأنها طارئة لم يتعلمها منهم غير قليل(تعليق:لم يكن العرب فى الجزيرة أهل كتابة، وتدوين، ولم يمارسوا هذا إلا عند هجرتهم، واستيطانهم في الحواضر الشمالية المتاخمة للجزيرة العربية، فربما كتبوا، ولكن المكان لم يساعد التاريخ في امداده بالوثائق الدالة على ذلك؛ فالمكان نفسه متحرك، وليس له القدرة على حفظ مواقعه فى هذا التيه من الرمال المتحركة، والقبائل الهائمة بدورها أيضا سعيا وراء الماء، وأسباب الحياة)..
   أكثر غوامض التاريخ يخلقها المؤرخون، لأنهم ينظرون الى التاريخ كأنه حسبة أرقام لاحصاء السنين، والأيام، أو كأنه أطلس مواقع، ومعالم، أو كأنه سجل حوادث، وأنباء؛ فلو واجهوه على قاعدة واحدة؛ وهى أنه وصف نفوس انسانية، وقد غمض على المؤرخين شأن كثير من أحوال الرسالات النبوية، ولم يعرف التاريخ رسالة نبوة فى "الحضارة" دون غيرها، أو فى "الصحراء" المنعزلة دون غيرها، وانما عرفت هذه الرسالات على الدوام فى "مدينة حولها صحراء"، أو فى "صحراء على مقربة من مدينة"، ولهذا كانت "مدن القوافل"، وما فى حكمها أحق الأماكن بالدراسة من جانبها هذا الذى يرشحها لقيام الدعوات الدينية..
-         لم اختص الله الأمم السامية بالرسالات النبوية؟!..
-         لمَ لمْ تظهر فى الهند، أو الصين، أو فى القارة الاوربية؟!..
-    أم كانت هذه الرسالات هى الدور الذى تهيأت له أمة واحدة فى وسط العالم؟.. "أمة وسطا" كما نعتها القران الكريم..
   أسئلة تظل على غموضها حتى ننظر فى الأحوال النفسية التى يكون عليها الانسان بين "الحضارة"، و"البداوة"، ولاتهيؤه لها الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد..  بل لابد من التقاء الشعوريين، وامتزاج المجتمعين، ولم يحدث قط أنهما التقيا، وامتزجا على هذا النحو فى غير البلاد التى قامت عليها الحضارات الأولى، وظلت زمنا طويلا جامعة بين الصحراء، والمدينة، والأقطار المتحضرة؛ كأنها خلقت للنهوض بهذه الأمانة، ونشرها فى جميع أنحاء العالم..
   ودولة الحضارة التى تتلاحق فيها مظاهر العمران تعطينا المشترعين، والكهان، ولا تعطينا الأنبياء المرسلين، أو الرسل، وتؤول فيها مسألة الدين الى سلطان الكهان؛ وهم أعداء الأنبياء، ويحدث أحيانا أن يتصدى الكاهن للنبى حماية لعرش الملك..
   وليس فى الصحراء التى انقطع ما بينها، وبين العمران من شريعة غير شريعة العدوان، ولا عمل للقبائل فيها غير الاغارة، والاستعداد لدفع الغارات من الآخريين..
   ففى "البتراء" محاريب الحجارة  السود التى تساقطت من السماء، وفيها هيكل البنت، أو الربة المصرية "ايزيس"..
-         وما ايزيس؟!..
-         أتكون هى العزى التى عبدت زمنا فى الجنوب؟..
   عثر الباحثون فى آثار بابل، وآشور على كلمات كثيرة فى الألواح السماوية من مصطلحات علم الفلك القديم، ومنها أسماء المنازل، والبروج، ومجاميع الكواكب، والنجوم، هذه الطوالع درست باستفاضة، وتدقيق، وكتب خلاصة درسه الأستاذ "اريك بروز" فى كتاب "طوالع يعقوب وبلعام" فانتهى منها الى وحدة بين كل اسم من أسماء الأسباط، وبين برج من أبراج السماء(تعليق: يتحدث القرآن عن رؤيا يوسف، وكيف أنه رأى أحد عشر كوكبا – اخوته – ساجدين له مع الشمس، والقمر؛ وهما أباه، وأمه)..
   ومن مفاخر "يوسفوس" المؤرخ دعواه أن ابراهيم الذى علم أحبار المصريين "أسرار الكواكب"، و"حساب الفلك"، وقد جاء فى القرآن أن ابراهيم كان ينظرفى "النجوم"، وأن يوسف كان "يعبر الرؤيا"، وأن موسى كان يطلع على "سحر الكهان"..
   ان "النبوة" التى تنفصل من الكهانة خاصة لم تتكرر فى غير "السلالة العربية"، وقد يأتى النبى ليصدم العبادات التى يقوم الكهان على شعائرها، ومراسمها؛ فالكهانة نظام المجتمع، وتقاليد الدولة، و"الاله" أشبه برئيس الديوان، و"الكاهن" أشبه بمندوبه، وأمين سره..
-         كلمة "النبى" عربية لفظا، ومعنى..
-         عربية "لفظا"..  لأن مادة  النبأ، والنبوءة أصيلة فى اللغة.. 
وعربية "معنى"..  لأن المعنى الذى تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة فى اللغات الأخرى..  فهى تجمع معانى "الكشف"، و"الوحى"، و"الانباء بالغيب"، و"الانذار"، و"التبشير"؛ وهى معان متفرقة تؤديها اللغات الحديثة بكلمات متعددة؛ "فالكشف" فى الانجليزية  Revelation،  و"الوحي"  كلمة inspiration،  و"استطلاع الغيب" كلمة divination ، أو oracle،  ولا تجتمع كلها فى معنى النبوة كما تجتمع الكلمة باللغة العربية..
   وقد أشارت التوراة الى ثلاثة أنبياء من العرب غير "ملكى صادق"، وهؤلاء الأنبياء الثلاثة هم "يثرون"، و"بلعام"، و"أيوب"، ومنهم من يقال انه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنا وهو أيوب، وقد ذكر المفسر "هالس Hales" أن تاريخ أيوب قريبا من سنة 2300ق.م.؛  فهو من أقدم الأنبياء فى الجزيرة العربية، وكلهم متفقون على أنه من أبنائها، وان اختلفوا فى مكان بين شمال نجد، وشرق العقبة..
   أما عقيدة أيوب كما تفهم من سفره أنه ينكر عبادة الشمس، والقمر، ويصف الله القدير بأنه أعلى السماوات، وأعمق من الهاوية، وأعرض من البحر، وسوى بين الحر، والعبد، ويحمد من الغنى يكون أبا للفقراء، وأجل من ذلك شأنا فى تاريخ العقيدة الدينية أنه أول من نص على "البعث" فى كتب العهد القديم، وكانت تربيته الالهية التى انتهى منها الى هذه العقيدة تربية طويلة، صبر فيها على نكبات المرض، والبوار، وخيانة الأقربين، والأبناء، وتدرج من القول بالزاول، والعدم، الى القول برؤية الله بعد فناء الجسد، وعلى الجملة يبدو "سفر أيوب" غريبا فى وضعه، وموضوعه بين اسفار العهد القديم؛ فلم يكن من عادة اليهود أن يجمعوا فى التوراة كتبا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم، وميعادهم، ولكنهم وجدوه فى بقاع فلسطين الجنوبية محفوظا يتذاكره الرواة؛ فحسبه بعضهم من كلام موسى، وبعضهم من كلام سليمان..
   وجدت "قصة الخليفة" منقوشة "بالخط المسمارى" على الالواح التى عثر عليها عند مدينة "الموصل"، وهى بالمتحف البريطانى بلندن، وهى تشبه قصة الخلق فى القرآن فى ستة أيام، ولكنها محرفة كالاساطير، وتؤلف قصة الطوفان البابلية اثنى عشر فصلا على حسب البروج، وهى أيضا بالمتحف البريطانى ، وقد علم المنقبون أن هذه القصة منسوخة من مصدر قديم عنها يرجع الى أوائل الألف الثالثة ق.م.، وعلم المنقبون أن قصة الطوفان عامة لا تنفرد بها الآثار البابلية، ولايقل تاريخه فى القدم عن تاريخها..
   ومن كلامهم عن الخليقة، والطوفان نعلم أنهم يؤمنون باله عظيم، خلق الآلهة الصغار، وقدر لها منازلها فى السماء، وهى الأجرام العلوية، وأشهرها القمر، وقد عمت عبادته بلاد الساميين(أو العرب الأوائل) من وادى النهرين الى سيناء، ويسمونه "سين"، ومنها أخذ اسم "سيناء"، ولعله فى الأصل من مادة السنا، والسناء، وكان معه اله آخر اسمه "مراوخ"، أو "المريخ" فى وادى النهرين، وهو "اله الحرب" لاحمرار لونه كلون الدماء..
   وكانوا يرفعون الصروح لرصد الكواكب، واستطلاع الطريق، ويسمونها "زيجورات" منذ أقدم العصور على عهد "السومريين"، أو "الشمريين"(تعليق: ربما أخذ منهم "فرعون" هذا البناء لاستطلاع السماء كما ذكر القرآن)، وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب "الزهرة"(عشتار)، وهى ربة "الحب" لتألقها، وزهوها، وتقلب أحوالها، كما عبدوا "الشمس" قديما باسم(شماس)؛ وان لم تكن عامة بينهم كعبادة القمر، وكان "الخليل" يبنى المحاريب على الأماكن العالية الى جوار الشجر، والماء..
   وفى متحف جامعة اكسفورد بانجلترا أسماء الأسر التى حكمت بابل بعد الطوفان، الى أيام "سراجون"، وكانت مدة حكمهم جميعا أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة وعشر سنوات، تولى الملك فى الاسرة الاولى منهم  23 ملكا، وكما تتحدث الألواح أنهم قد هبطوا من السماء، الى الأرض لحكمها بعد أن طهرها الله، وعاقبها على فسادها، ولذا ظهر من فرض  عبادته على جميع البلاد توحيد ا للدولة(تعليق: كما فعل قدماء المصريين فى وادى النيل)..
   وتدل الأحافير على قدم الضحايا البشرية فى العبادات التى سبقت عهد الساميين بوادى النهرين، وبقاع الهلال الخصيب،  وأنها بقيت الى ما بعد وفود الشعوب السامية الى تلك البقاع، وتدل الأحافير بمدينة "أور" أيضا على قدم عادة "عبادة الملوك"، اذ كان الملوك يدفنون، ومعهم حاشيتهم، ووزرائهم حيث يتجرعون السم باختيارهم للانتقال مع الملوك الأرباب الى حالة فى السماء كحالتهم فى الحياة الأرضية..
   سأل "هيرودوت" الفينيقيين، والسوريين عن عادة "الختان"؛ فقالوا انهم أخذوها من المصريين؛ اذ كان يتحرون به النظافة، والطهارة، ويعتقد أنه اختصار لعادة الضحية البشرية، وقد بدأ الختان بالرجال، ثم وجب بعد ذلك  على النساء كعلامة تسليم لاله القبيلة، وهو ما فعله الاسرائيليون أيضا، وليس صحيحا أنه علامة لقبيلتهم..            
   لايخلو دين أمة قديمة من الايمان بعالم آخر غير عالم الأحياء؛ حيث شاع الايمان بالأرواح، والأطياف، واعتقدوا أن الانسان يبقى بعد موته لأنه يأتيهم فى الأحلام، ومن هنا جاءت عبادة الأسلاف(تعليق: تحدث القرآن فى أكثر من موضع عن قدسية الآباء من الموتى لدى العرب)، وكان الايمان بالعالم الآخر نوعان؛  الهاوية تحت الأرض بعيدا عن النور، ولكنه جزء من هذا العالم المشهود(الديانة البابلية)، ونوع  ينظر الى العالم الآخر كعالم للحساب، والجزاء، والتفرقة بين الأبرار، وغيرهم؛  فهو عالم الخلود، والحياة الفانية فى الدنيا(الديانة المصرية)، وهناك نوع بين الاثنين يجمع بين الهاوية، والخلود؛ فكل الموتى يذهبون الى الهاوية، وينجو فقط من يدينون بالاله الحق آخر الزمان، فيعودن للحياة كحياة الدنيا، ويقضى الموت الأبدى على الآخرين (الديانة العبرية)..
   ومما علمناه اليوم أنهم أقاموا للكواكب تماثيل لاتغيب عن أبصارهم اذا غابت الكواكب، فعبدوها مع عبادة الكواكب على سبيل التقريب، والتمثيل..
   عين معظم المنقبين تاريخ ابراهيم فى زمن وسط بين أوائل القرن الثامن عشر، وآواخر التاسع عشر ق.م.،  ويجعلونه معاصرا لدولة "الرعاة" فى مصر، ودولة "العموريين" فى العراق، وانتقل من "أور"، الى "آشور"، الى "فلسطين"، الى "مصر"، الى "بيت المقدس"، ثم "صحراء الجنوب"..
   الحقيقة ما ذكرناه آنفا عن نسبة ابراهيم الى العربية، فلا يقال عنه انه اسرائيلى، لأن "يعقوب" هو أول من سمى "باسرائيل"، وهو حفيد ابراهيم، ولا يقال عنه يهودى؛ لان اليهودى ينسب الى يهودا رابع أبناء يعقوب..
   يغلب أن ابراهيم تربى للامامة الدينية، وتعلم العلوم التى كانت شائعة بين طبقة الرؤساء الدينين، ومنها علم الفلك، والطب، والتعاويذ، ورقى الأسماء..
   وواضح من تواتر روايات التوراة، والمشنا أن اللهج ببيت المقدس انما جاء متأخرا بعد عصر ابراهيم،  وعصر موسى بزمن طويل، وأنه جاء مع عصر المملكة الاسرائيلية، وعملت فيه السياسة عملها المعهود(تعليق: لم يكن أمر الله لبنى اسرائيل فى القرآن بدخول الأرض المقدسة للاحتلال، أو احلالهم مكان سكانها الأصليين، ولكنه من قبيل البركة، ونشر الدعوة)، فبعد موسى بعدة قرون بقيت أورشليم فى أيدى اليبوسيين، واستولى "بنو بنيامين" على جيرانها، ولكنهم لم يطردوا منها اليبوسيين، ثم تغلب "بنو يهودا" على المدينة فدمروها، وأحرقوها، ولم يقيموا فيها، وعاد اليبوسيون فجددوا بناءها، وسكنوها الى أيام  الملك "شاؤول"، ثم استولى عليها "داود" فاتخذها عاصمة، وبنى فيها "سليمان" هيكلها المشهور..
   ان ابراهيم صاحب دعوة دينية، وليس فى المصادر الاسرائلية ما يدل على أنه قد صنع شيئا لنشر دعوته..
   وربما سميت "مكة"، و"بكة" باسم البيت الذى بنى فيها، لأن البك، والبكة كانا يطلقان على "البيت" فى اللغة السامية الأولى، ومنها "بعلبك" بمعنى بيت البعل..
   اختبر ابراهيم حياة الشرك، واختبر شعائره، وفرائضه، وخلصت له الهداية بالخبرة، والهداية الالهية، وأصدق ما يكون ذلك على "البعث" خاصة، فابراهيم هو النبى الوحيد الذى ذكر القرآن الكريم أنه سأل ربه كيف يحى الموتى؟..  فالحق أن عقيدة البعث خفية فى كتب التوراة، وأن خفاءها هذا دليل على أنها بقيت زمنا بعد ابراهيم مجهولة، غير مفهومة، واذا اعتمدنا البحث التاريخى وحده لم يجز فى العقل أن يكون ابراهيم قد ذهب الى مصر، وعاد منها، ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت، وانما سمى أبو الأنبياء لأنه كان رائد الدعوة النبوية فى العالم الانسانى بأسره..
   فالقانون الطبيعى فرض من الفروض، وقد تصلح الجاذبية زمنا لتفسير حركات الأفلاك، ثم تأتى النسبية فيثبت لبعض العلماء أنها أصلح لتفسيرها من الجاذبية، ومهما يبلغ من دقة القانون الطبيعى؛ فهو لا يحصر كل الحقيقة، ولابد من جزء محصور، موكول الى التقدير، والترجيح..



الاثنين، 25 فبراير 2013

لاشيوعية ولااستعمار



   يقول المؤرخ الهندي "سردار بانيكار Panikkar"  في كتابه "آسيا والسيطرة الغربية" عن عصر المد الاوروبى:
-"فمن عهد صلاح الدين الذي استرد بيت المقدس من الصلبيين؛ أصبح الاسلام من قاعدته في مصر منظمة قوية حائلة بين القارتين الأوروبية، والآسيوية، وانتهت إلى غير طائل تلك الانفجارات الملتهبة من الحماسة، والغيرة، والحركة التي جاشت بالعالم المسيحي في الحملات الصليبية الثلاث، وكان هذا النصر من وجهة النظر التاريخية أثناء العصور المتأخرة من أقوى العوامل الحاسمة في تاريخ العالم، ووطد السيادة الإسلامية على سواحل سورية، ومصر لعدة قرون مقبلة، ولم تخف هذه الحقيقة عن ساسة الغرب كما يؤخذ من توجيه الحملة الصليبية الخامسة(1218- 1221) إلى مصر نفسها"..   إلى أن يقول:
-"وإذا كانت البرتغال قد أصبحت وريثة "جنوا" في الرحلات البحرية؛ فقد أصبحت كذلك في القرن الخامس عشر وريثة المسيحية في وجه الاسلام، إذ بينما كان الاسلام في رأى الممالك الغربية الأخرى خطرا بعيدا؛ كان هذا الخطر مرهوبا مخيفا على الأبواب في  رأى أبناء "قشتالة"، و"أرغوان"، و"برتغال""..
    وفى كتاب "أوروبا والدنيا الواسعة" بين سنتي 1415- 1715 يقول المؤلف بارى  :parry  -"إن خطة البرتغاليين نحو الشرق لم تكن قط مجرد خطة من خطط التزاحم على التجارة، وإنما كان الموقف بين البرتغاليين، والعرب من البداية موقف قتال عنيف ملأته العصبية بالمرارة"..
   ويقول العقاد من كتابه "لا شيوعية ولا استعمار":
-"وكل من المؤرخين الشرقيين، والغربيين يكتب تاريخه في النصف الأول من القرن العشرين وهو يستمع إلى خطب القادة الغربيين الذين تكلموا عن غزو فلسطين في الحرب العالمية الاولى فوصفوها بأنها الحرب الصليبية الأخيرة، وبعد انتصاف هذا القرن يتناول تاريخ العالم ثلاثة من المؤرخين هم "هايس Hayes ", و"مون   ،"Moonو"وايلاند   "Wayland فيلخصون أربعة أسباب للاستعمار العصري هي:
1.    إضافة أملاك إلى أوطانهم..
2.    فتح أسواق، وحماية التجارة..
3.    الاستيلاء على بعض المواقع لضرورة الدفاع..
4.  تمدين الأمم المختلفة، أو تنصيرها، وأولى الأمور بالملاحظة في هذا الصراع أنه يتكرر في بقاع الأرض بعد فصل الدولة، والكنيسة في البلاد الفرعية، وأن الدولة تعترف بالدعوة الدينية خارج بلادها لأنها تعتبرها "دعوة سياسية" تستعين بها على خصومها في مجال "السياسة الدولية""..
   فما استطرد الأوربيون إلى هذه النتيجة إلا من تلك المقدمة، وما كانت رسالة الرجل الأبيض، وأمانة الحضارة الأوربية إلا النسخة المنقحة من رسالة "الخلاص الروحي"، وأمانة الإصلاح، وتطهير الأرض من فسادها..
   فقد كان القرن السادس عشر، وما بعده فترة متيمة بالانشقاق بين إتباع الكنيسة، والثورة على سلطانها؛ فتحول المستعمرون إلى النداء بأمانة الرجل الأبيض؛ لأنه النداء الذي يعطى الأوروبيين ما يدعونه من حقوق الفتح، والسيادة، ولم يرفض أنصار الكنيسة هذا النداء الجديد؛ بل قبلوه، وكرروه، ولعله كان وسيلة منتظرة للتوفيق بين روح الزمن الماضي، وروح الزمن الحديث، وزمن الثورة العلمية، والتبشير باسم الثقافة الإنسانية، وحجة الرجل الأبيض هي حجة القارة الأوروبية في جميع عصورها، ويزداد عليها بعد عصر الحروب الصليبية أنها امتدت إلى الرجل الامريكى، الذي حقق السيادة على الأجناس الحمراء والسوداء..
   ولا نحسب أننا نفهم سر انتقال "الدعوة الصليبية" إلى "الدعوة البيضاء" إلا إذا فهمنا أن الرسالة الجديدة جاءت لتحل محل الدعوة الصليبية، كما جاءت لتمتد بها، وتستفيد من سوابقها، فنحن لا نفهم سر هذا الانتقال على حقيقتة إذا فهمنا أن رسالة الرجل الأبيض نسخة مكررة من الحروب الصليبية في جميع تفصيلاتها..
   قيل كثيرا إن سبب الاستعمار هو إغلاق الطريق على تجارة الهند، والبلاد الشرقية وقيل، كثيرا ان حركة الاستعمار نشأت من زحام السكان في القارة الأوروبية، ونزوعهم إلى الهجرة، والتعمير في البلاد النائية، ولا يصدق هذا التعليل على بلد واحد من البلاد الشرقية التي اتجه إليها المستعمرون في الخطوات الاولى من حركة الاستعمار، وإنما يصدق على المهاجرين النازحين إلى القارة الأمريكية سواء كانوا من البريطانيين، والهولنديين، أو من الأسبان، والبرتغاليين، وسواء قصدوا إلى الجنوب؛ ولم تلبث هجرتهم أن تحولت إلى إقامة دائمة؛ فاتخذوا من مقامهم الجديد وطنا يملكونه دون أبنائه الاصلاء، ودون الوافدين إليه على السواء..
   وقيل كثيرا إن كشف الطريق إلى الشرق كان الاستعمار الأول؛ فهل كان يكفى أن يكشف الأوروبيون طريق الشرق ليستولوا عليه؟!ّ..  وهل كان من المستطاع أن يتم الاستعمار لو لم تصاحبه بواعث الحروب الأندلسية، ونزاع المذاهب الدينية، وبحوث العلماء عن الجغرافية، والفلك، وتقدم الملاحة في الغرب مع تقدم الصناعة، وتقدم التسليح؟!..
وهل كان يكفى كل ذلك لنشأة الاستعمار؟..
   فما كان الرجل الأبيض ليفكر في دعوى الأمانة على حكم الدنيا، وهو مسخر للحكم، أو قابل للتسخير، وقد كان هذا الرجل الأبيض مغلوبا على أمره في عهد الإمبراطوريات الأوروبية التي دانت لها بالطاعة شعوب أوروبية متعددة الأجناس، واللغات، ثم تمزقت هذه الإمبراطوريات، وخرج منها أمراء الإقطاع بفتات من السلطة، والاستقلال، ثم تجمعت الأوطان التي تدين بالطاعة لأبنائها، وتأبى الخضوع للحاكم الأجنبى عنها، ثم نبتت أمانة الرجل الأبيض حين نبت الرجل الأبيض المستقل بحكم نفسه عن غيره من أبناء جنسه، ولهذا تأخر في ميدان الاستعمار أولئك الأوروبيون الذين وجدوا في قلب القارة من يحكمونهم، ويقنعون بحكمهم، ولعلهم لو استقلوا جميعا بحكم لأنفسهم قبل عهد الحضارة الحديثة التي اشتهرت باسم الحضارة الأوروبية لما تخيلوا لهم رسالة إنسانية يحسبونها معلقة في عنق الرجل الأبيض، ولوقفوا عند حد الرسالة الدينية التي اندفعوا إليها زمنا في حملات الصليبين..
   ويضرب المؤلف مثلا "بايطاليا" التي لم يكن لها الدخول في مضمار الاستعمار وهى غير مستقلة، أو غير متحدة كما دخلها قبلهم "الأسبان"، و"البرتغاليون"، ولم تكن لايطاليا رءوس أموال تثمرها خارج بلادها، ولا معامل صناعية كبرى تحتاج إلى المستعمرات لتصريف مصنوعاتها، أو جلب خاماتها، وإنما كانت مسألة الاستعمار في أسبابها مسألة " وخاصة دولية"، لأنها في عداد الدول التي تملك المستعمرات، وتحكم الشعوب؛ فلم يكن عند الإيطاليين أموال يديرونها يومئذ في الصناعة، أو التجارة..
   ولعل هذه البواعث النفسية كانت في "الحرب الإيطالية الحبشية" الأخيرة، أظهر منها في الحروب الأولى التي أعقبت أزمة سنة 1866، وانتهت بالهزيمة النكراء، فان العظمة الرومانية التي حاول "موسلينى" أن يبنى عليها مجد "ايطاليا الفاشية" كانت ضربا من الخيلاء الخاوية أمام شبح الهزيمة النكراء في الحرب الحبشية الاولى، ويمكن تلخيص العوامل الاستعمارية إلى شطرين كبيرين؛ هما شطر العوامل "النفسية"، وشطر العوامل "الاقتصادية", وأول الشطرين أرجحهما، وأقواهما على الدوام، لهذا كانت البرتغال أسبق من انجلترا إلى المضمار، ولو لم تكن العوامل النفسية لكانت انجلترا أولى بالسبق إليها؛ إذ كانت عندها السفن، والخبرة بالملاحة، والحاجة الملحة إلى التجارة، وعندها بوادر الصناعة الحديثة، وأدواتها، وعندها الشركات التي ترتبط بكل مكان فى القارة الأوروبية، وتتلاقى العوامل النفسية بجملتها في الدين، والعنصر، والأفكار العلمية؛ كما تتلاقى العوامل الاقتصادية بجملتها في التجارة، والصناعة، وأحوال المعيشة..
   أما عامل الدين فتاريخ أوروبا منذ القرن الثاني عشر، إلى مفتتح عصر الكشوف مملوء بالشواغل الدينية التي كانت تغمرها من مشرقها إلى مغربها، فلا يتأتى أن تصدر عنها حركة عامة دون أن تمتزج بها في جميع نواحيها، وما من مشكلة دينية خلت من مشكلة عنصرية تسبقها، أو تصاحبها؛ فأوروبا تشمل في مجموعها شعوب "اللاتين"، و"الجرمان"، و"الثيوثون"، و"الصقالبة، أو السلاف"..
   أما الأفكار العلمية التي كان لها أثر في نشأة الاستعمار فأهمها فكرة "استدارة الأرض"، وامكان الوصول إلى مشرقها من الاتجاه إلى آفاقها الغربية، وهذه الفكرة في أسلوب تأثيرها على الحوادث نموجا لسائر الأفكار العلمية في خضوعها لدواعي المصلحة، وفى خضوعها لتلك الدواعي بالمشيئة، والإقناع، ولعل الفكرة العلمية أفادت "كولومبس"، وأفادت عصره كله من ناحيتها العامة التي بعثت في النفوس حب البحث، والاستطلاع، وجعلت الوقوف على كروية الأرض بالتجربة العلمية، وطلبا مستحقا للبحث عنه مع ما فيه من النفع، والمصلحة..
   أما شطر العوامل الاقتصادية في نشأة الاستعمار فقوامه -  كما هو معلوم - تجارة المشرق في أصناف الأباريز، والأنسجة، والطيوب، وقد تكرر هذا السبب في الحديث عن أسباب الاستعمار؛ حتى خيل للناس أنه السبب الوحيد في الحملة على المشرق؛ فالذين يذكرون التجارة الشرقية، ويحسبونها سببا في نشوء حركة الاستعمار يبالغون – بل يفرطون في المبالغة – ولعا منهم بتعظيم شأن المسائل المادية في توجيه حركات التاريخ، وغراما بتهوين شأن البواعث النفسية..
   وقد كان سوء المعيشة فاشيا فى أرجاء متفرقة من القارة الأوروبية يوم توجهت الكشوف الأولى للبحث عن طرق التجارة الشرقية، وما كان سوء المعيشة فى مرده إلى أصوله الا نتيجة للأزمات النفسية التى أثارت الشعوب تارة لطلب الحرية الدينية، وتارة أخرى للتنازع على السيادة العنصرية، فلما تفرقت الأقاليم المستقلة، واختل النظام فى الأقطار الواسعة بعد تمزيق شملها، وتفتيت مواردها بين صغار الأمراء، وولاة الاقطاع تجمعت تلك الحالة السيئة، واضطربت معيشة الملايين من أبناء القارة فى مشرقها، ومغربها، ولم يفارق الأوربيون أوطانهم جماعات ليسلكوا طريق التجارة، وينعموا بالأنسجة، والأباريز؛ وانما فارقوا أوطانهم جماعات بعد أن علموا أن السفر للاقامة الطويلة،  وأنهم يسافرون الى الهند الغربية، لا الى الهند الشرقية،  وينازعون الهنود الحمر، ولا نزاع لهم مع هنود الانسجة، والأباريز..
   وفى تاريخ الاستعمار الشرقى أعمال متفرقة تحسب من النتائج الباكرة لتلك العوامل المادية، والنفسية التى أجملناها فيما تقدم، ولكننا اذا أردنا أن نميز بينها عملا واحدا ترتبط به جميع النتائج اللاحقة فى استعمار الشرق لم نجد بينها ما هو أحق بالتمييز من استيلاء البرتغال على ميناء  "سبتة" سنة 1415، لأنه كان فاتحة المعرفة بالطريق، وفاتحة الأعمال المنفذه فى وقت واحد، ومن هنا يقول الأستاذ بارى  parry فى كتابه "أوروبا والدنيا الواسعة":
-"ان الاستيلاء على سبتة وضع البرتغاليين فى موضع يهيىء لهم معرفة وافية بالقارة الأفريقية لم تكن متهيئة لغيرهم من الاوروبيين".. 
   ففى سنة 1419 اعتزل الأمير "هنرى الملاح" البلاط الملكى، وشواغل السياسة، وأخذ فى اقامة مستقره الصغير فى الجنوب الغربى من "هضبة البرتغال"، وبقى ثمة يرقب "المحيط الأطلسى" بين حاشيته الصغيرة من أناس ركبوا البحر، أو عناهم أمر التجارة، والرحلات على متنه، وكان كثير منهم ايطاليون دعاهم الأمير للعمل على نفقته، وتحت اشرافه، وطفق فى سنة 1420 يبعث من ميناء "لاجوس" القريب سلسلة من البعوث للكشف عن السواحل الأفريقية، واستطلاع الطريق الى الهند، وهى بلاد كانت معروفة بمحصولاتها، وان لم يكن عند الاوروبيين خبر عنها غير أخبار الفصص، والاشاعات، وكان الأمير هنرى يفكر فى وجود الطريق الشرقية، ويتوق الى فرصة سانحة لتحويل الأمم الزاخرة من أبناء الهند الى "الديانة المسيحية"، ويرجوا فى الوقت نفسه أن يتمكن من عقد محالفه تجارية حربية بينه، وبين مملكة "الحبر حنا prester John"  ذلك الشبح البعيد الذى كان يومئذ يشبه أشباح الأساطير، أما أساس أخباره من الواقع فهو ولا ريب قائم على مملكة الحبشة المسيحية؛ التى يحيط بها الأعداء من المسلمين، ولا تزال للقبط كنيسة بها على جرف من الثبات؛ فاذا تسنى للبرتغاليين أن يصلوا الى مملكة الحبر حنا؛  فقد بات المسلمون فى أفريقية الشمالية محصورين بين سدود محكمة من المسيحيين، ومن الجائز أن الأمير هنرى كان له نصيب من ولع الاستطلاع العلمى الذى شاع بين الخاصة من أبناء عصره، الى جانب هذه المقاصد التجارية العسكرية الدينية..
   كان التقدم فى السنوت الأولى بطيئا شديد البطء؛ فلم تتمكن سفينة أوروبية من تجاوز "رأس بجادور" الا بعد أربع عشرة سنة، ويصد الملاحون عن سواحل أفريقيا لتك الرهبة من "بحر الظلمات" التى ورثوها من "العرب"، وكانت العقبة النفسية الأخرى اعتقاد بعضهم أن الرحلات الأفريقية لا طائل تحتها، ولا منفعة من ورائها؛ فظهر خطأ هؤلاء سنة 1441 حين عادت احدى البعثات من الساحل الذى يقع قريبا من جنوب رأس بجادور بكيس فيه تبر، وجماعة صغيرة من أسرى الزنوج، وقد بلغ عدد العبيد الذين جاءت بهم السفن البرتغالية بعد ذلك الى سنة 1446 نحو ألف عبد بين مأسور، ومشترى، وقد عومل هؤلاء العبيد معاملة رقيقة؛ اذ كان سادتهم يعنون عناية دقيقة بتعليمهم عقائد المسيحية، واتسعت تجارة الرقيق بعد ذلك؛ فبنى الأمير هنرى معقلا، ومصنعا مخصصين لها على جزيرة "أرجيوم" فكان هذا المصنع أول معهد أوروبى للاتجار وراء البحار..
   ولما رأى الأمير أم الكشوف التى أشرف عليها عادت ذات قيمة تجارية مجدية؛ حصل على رخصة من الملك أخيه باحتكار التجارة على "سواحل غانة"، وجعل لمغامرات غانة صفة دينية؛ فحصل من البابوات المتعاقبين على "براءات الغفران" لكل من عمل بالكشوف الأفريقية، كما حصل على امتياز منهم بحق "التبشير" بالديانة المسيحية بين الزنوج..
   أما أكبر الكشافين "فاسكو دى جاما "Vasco de gama  صاحب العبارة التى لخصت أغراض الرحالين الأوروبيين فى كلمتين:
-"أبازير، ومسيحيون"..
   ثم ازدادت المشكلة تعقيدا بعودة السفينة "نينا".. سفينة كولمبس الى "نهر التاجوس" فى شهر مارس سنة 1493، وركابها يزعمون أنهم بلغوا بها الشرق الأقصى من السواحل الآسيوية؛ فاذا صدق كولمبس، وجماعته فقد ذهب الشطر الأكبر من رحلات البرتغاليين فى نحو قرن كامل سدى، وأفلتت الغنيمة التى لاح للبرتغاليين أنها فى قبضة أيديهم؛ فآلت الى أيدى الأسبان..
   لم يخرج أسطول البرتغاليين الى "الهند" فى رحلته الا فى سنة 1497،  وهو أسطول فاسكو دى جاما الذى مر بأماكن عدة على الساحل الشرقى من القارة الأفريقية لتموين السفن بالماء، والوقود، والنفط فى ميناء "ملندى" مع الملاح المسلم "ابن ماجد" الذى شاء الحظ أن يكون من نوابغ عصره فى فنون الملاحة الفلكية؛ فاستطاع بمعونته أن يعبر "المحيط الهندى" الى ميناء "قليقوت"..
   ويقول الأستاذ بارى فى كتابه المذكور:
-"ان انتشار تجارة الأبازير فى القرن الخامس عشر كان على اتصال وثيق بانتشار الاسلام غربا، وشرقا منافسا للمسيحيين، والهنود؛ اذ كان "الترك العثمانيون" يفزعون أوروبا الشرقية، وراح "التجار المسلمون" ينشرون دياناتهم فى "الهند الشرقية"، ويؤسسون ثمة "امارات" تعمل فى التجارة يستوى فيها على العروش أمراء من أمة "الملايو" بالنسب، ومن المسلمين بالعقيدة، وحينما ذهب المسيحيون الأوربيون شرقا؛ وجدوا المسلمين سبقوهم الى هناك حتى لم يبق من تجارة الأبازير الى سنة 1500 شىء فى غير أيدى المسلمين"..
   فلا مناص للبرتغاليين لتحويل تلك المواقع المتخلخلة الى معاقل ثابتة، ودول مسيحية واسعة من الاعتماد على أسطول ثابت فى المحيط الهندى، ولا مناص لذلك الأسطول من مقر بحرى، أول هذين الأمرين أن السفن البرتغالية كانت أقوى بتركيبها، وسلاحها، وخبرة ملاحيها، وأقدر على القتال من سفن التجارة الشرقية بين السواحل الهند، وسواحل القارة الافريقية..
   وثان هذين الأمرين أن سفن المماليك التى كانت قادرة على مساجلة السفن البرتغالية قد خرجت من الميدان بعد هزيمتهم فى مصر أمام الدولة العثمانية، فان سلاطين الترك لم تشغلهم "تجارة" البحر الأحمر كما شغلتهم "حروب" القارة الأوروبية، ولم تحفزهم البواعث العاجلة الى بناء الأساطيل خاصة لمحاربة البرتغاليين فى المحيط الهندى ايثارا منهم للغلبة على "البنادقة فى البحر الأبيض" وهم أعداء "البرتغاليين"، وأعداء "الترك العثمانيين" على السوء..
   التقى الأسطولان "البرتغالى"، و"المملوكى" عند "بومباى"؛ فكانت الغلبة فى هذه المعركة للمماليك، ثم تجددت المعركة، وجمع لها البرتغاليون كل ما استطاعوا؛ فانهزم المماليك فى هذه الجولة هزيمتهم الأخيرة سنة 1509 لأنهم فقدوا ملك مصر بعدها حين افتتحها السلطان "سليم الأول" العثمانى بعد ثمانى سنوات(1517) ليبدأ السباق بين الدول الغربية الذى تعاقبت أشواطه زهاء أربعة قرون..
   لقد أوشك خبر عودة الأسطول البرتغالى بالبضائع الشرقية بعد طوافه حول القارة الأفريقية، واهتدائه الى طريق الهند أن يطلق الحكومات، والبيوت التجارية فى سباق طائش الى الهند الموعودة بغير قيد، ولا ضابط، فاذا كان هذا السباق قد ثاب الى شىء من التؤدة؛ فما كان ذلك الا شواغل الفتن الداخلية، والحروب العامة، والمنازعات على كشوف الأمريكتين فيما بين البرتغال، والأسبان، ثم انتهى السباق بين الدولتين بتوحيد العرشين؛ فانزوت البرتغال من مجال الكشف، والاستعمار، وآلت السياسة الاستعمارية كلها الى العاصمة الأسبانية..
   ثم دارت الدائرة على أسبانيا بعد هزيمتها البحرية فى معركة "الأرمادا" فبرزت الى المجال ثلاث دول أوروبية؛ استقلت "هولندا" من سيطرة أسبانيا؛ فنازعتها السلطان فى التجارة، والتبشير، ثم ظهور "الدولة الفرنسية" فى مكان الزعامة بين دول القارة الأوروبية، ولم تزل تتشبث بهذه القيادة فترة غير قصيرة بعد فصل الدولة، والكنيسة، ثم انفردت "الجزر البريطانية" بالسيادة على البحار فقبضت على زمام السياسة الاستعمارية فى العالم منذ معركة الارمادا الى ما بعد الحرب العالمية الثانية..
   ومن فكاهات الحوادث، ومناقضات الصروف أن دعاة الانجليز الى الاستعمار انما كانوا يأتمون بكتاب ألفه الهولندى "لنشوتين Linschoten" سنة 1596 يصف فيه كشوف البرتغال، ويقول مترجمه الى الانجليزية:
-"عسى أن تعمل هذه الترجمة الحقيرة عملها فى أمتنا الانجليزية؛ فتبعث فيها رغبة فى مزيد من شرف الاستعلاء بين الأمم بالسيادة العالمية؛ بفضل ما نبنيه من الجدران الخشبية(يعنى الأساطيل)"..
   وتعتبر هولندا على صغرها شيخة المستعمرين فى كثير من وسائل الاستعمار، وتمهيداته من قبيل "التبشير"، و"الاستشراق"، واستخدام "المعاهدات"، و"المحالفات" فى كسب الحقوق الشرعية، وهى التى سنت للمستعمرين اللاحقين بها تحويله من عهدة الشركات، الى عهدة الدولة، فأنشأت مجالس الحكم، الى جانب مكاتب الادارة، ثم جعلته نظاما حكوميا تغلب فيه الصفة الرسمية على صفة الأعمال الشعبية؛  فقد احتاجت الدول الاستعمارية الى القوة لاكراه البلاد الشرقية على قبول معاملتها، وفى منافسة بعضها لبعض، وحماية الطريق بين مناطق النفوذ..
   تم "لالمانيا"، و"ايطاليا" كيان قومى فتوثبت كلتيهما للدخول فى المضمار، وكذلك صنعت "الولايات المتحدة" فى الأمريكتين، واليابان فى آسيا، وجعلت فى فخرها الآسيوى أن تكون أحق بالقارة العريقة من الأوروبيين، والآسيويين..
   تعاظم اهتمام المستعمرين بالشرق الأدنى، وبعض أقطار الشرق الأوسط التى كانت كلها بقايا تابعة للدولة العثمانية التى اصطلحت الدول الكبرى على تسميتها "الرجل المريض" المتفق على تقسيم تركته حلا لما سموه يومئذ "بالمسألة الشرقية"، ولأن هذه البلاد أسواق صالحة لترويج المصنوعات الحديثة منذ أن كانت بلادا عمرتها الحضارة عدة قرون، وعودت أهلها اقتناء اللوازم، والكماليات من مطالب الأمم المتحضرة، ولأن الحصول على خامات المواد الصناعية ميسور فى هذه البلاد، ثم تشاء المصادفات أن تظهر فى هذه البلاد ينابيع النفط، كما أنها الرقعة الوسطى بين القارات الثلاث، موقعا من أخطر مواقع الدفاع، والهجوم فى الحروب الكبرى،  ولأن الدول التى تنتحل الدفاع عن مذهب من المذاهب تجد الذرائع ممهدة لديها للتدخل فى شئون الشرق الأدنى؛ باسم الدفاع عن أبناء مذهبها، أو الدفاع عن الأماكن المقدسة، وكأن المستعمرون بحثوا عن حيلة طويلة الأجل تسعفهم عند الحاجة - وليس حيلة الساعة، أو حيلة كل ساعة – فلم يجدوا أنفع لهم من دولة يصنعونها بأيديهم، ولا يزالون على ثقة من حاجتها اليهم فكانت "دويلة اسرائيل"، وهذه البدعة هى آخر شوط من سباق الاستعمار فى الشرقيين الأوسط، والأدنى..
   نشأت مشكلة للمستعمرين أنهم لا يستطيعون أن يعاملوا البلاد المغلوبة معاملة واحدة، فجاء البحث أولا من فقهاء الدين، واتفقت آراؤهم بعد الخلاف الطويل على أن التدين بالمسيحية شرط لاستحقاق صفة الرعية الصالحة، فاذا عومل الوطنيون غير المسيحيين بشى من الهوادة؛ فانما هى الهوادة التى يستحقونها فى سبيل اقناعهم بقبول التبشير..
   والأمم التى كان لها عروش مؤسسة، وحكومات قائمة كانت تظهر منهم بنصيب من الحكم الذاتى يستبقى العروش لأمرائها، والحكومة لرؤسائها حيثما تيسر استبقاؤها بغير حظر على نفوذ الدولة المستعمرة، ومن لم تكن لهم دول، وحكومات خولوهم طائفة من مناصب الرئاسة فى الحكومة على قدر نصيبهم من الحضارة، والقدرة على ولاية المناصب المأمونة..
   ان الحرب العالمية الأولى كانت حدا فاصلا بين عهدين واضحين فى تاريخ الاستعمار، لأنها أزالت الاستعمار من حيث المبدأ، وكذلك قام "ميثاق الأمم" بعد الحرب العالمية الأولى على بطلان الاستعمار، واحترام حق تقرير المصير، واستحدثت للنظام الجديد أسماء تناسبه؛ فحل "الانتداب"، و"الوصاية" محل "الحماية"، وقد بقيت المستعمرات، وبقى الاستغلال، وبقيت مظالم الحكم، واستبيحت الأوطان عنوة، وعجزت "عصبة الأمم" عن حماية وطن واحد مستباح، أو عقوبة دولة واحدة تتحداها جهرة، وتستبيح ما حرمته فى الميثاق، وأقرها على تحريمه المعتدون،  ان تقرير المبدأ، والسكوت عنه سواء؛ وأن العالم لم يستفد شيئا من النظام الجديد، ولا يرجى أن يستفيد منه بعد حين..
   انه يستغل الرذيلة كما يستغل الفضيلة، يستغل الجبن، والخسة، والحرص على المنفعة العاجلة كما يستغل المبادىء الكريمة، والخلائق المحبوبة، فلو جمع ما قيل فى الدعوة الى الحرية، والسلام، والرقى، والحضارة لوقعت حصته الكبرى فى جعبة المستعمرين، انه يخلق ثلث الدعوات، ويخترع رسالاتها اختراعا من عنده ليدرك بها مأربه، ويخدم بها قضاياه، وبعض المفسرين الماديين للتاريخ ولع باسناد الرسالات الانسانية منذ القدم الى سماسرة الاستغلال من الساسة، وأصحاب الأموال، وقد حمل الاستعمار علم الحرية، والدفاع عن الرقيق، وفعل ذلك لاستعباد الشعوب الحرة، لا لاطلاق الأرقاء المستعبدين، وقد أرسل المستعمرون أساطيلهم ترتاد البحار، وترصد السواحل، وتعترض السفن، وتقتحم الموانىء، وتستبيح المواقع فى الأقطار المستقلة بحثا فيما زعموا عن النخاسين، والأرقاء، ولكنهم لم يفعلوا ذلك الا بعد أن أصبح الفتح منكرا يحتاج الى المعاذير، وبعد أن أصبح تحرير الرقيق مأثرة يدعيها المدعى، ويرشو بها الضمائر؛ فتقبل الرشوة خالصة النية، أو متواطئة على الخداع، أما  قبل ذلك فقد كان هذا الاستعمار يرسل أساطيله علانية ليقود حملات النخاسة، وينقل الشحنة بعد الشحنة من الأرقاء المغتصبين بغير ثمن، أو المبيعين بأبخس الأثمان، سلعا لا سعر لها فى سوق البغى غير سعر الصيد المباح، ودور الاستعمار فى قضية السموم، والمخدرات كدوره فى قضية الرقيق؛ دور المستغل التابع، لا دور المخترع المتبوع، فان الدول التى أقامت المؤتمرات فى جميع القارات لمصادرة السموم المخدرة، ومطاردة العصابات القوية التى تخصصت لتهريبها لم تتورع فى القرن الماضى عن حماية هذه السموم، واكراه الصينيين على استيرادها، وتشجيعهم على تعاطيها؛ كالمستعمرين الذين شبعوا من الاستعمار ينصرون السلام، لأن الحرب اما أن تكون ثورة عليهم من المغلوبين المطالبين بحقوقهم، أو منازعة لهم من الأقوياء الطامعين فى تراثهم، وفى كلتا الحالتين يغنمون من السلم ما لا يغنمونه من القتال، لا يطيق الرجل الأبيض منهم ظل الرجل الأبيض فى جواره مالم يكن شريكا له فى حصة من حصص الاحتكار، وهناك حقيقة تفسر لنا نهاية الاستعمار فى أوائل القرن العشرين؛ فكلما انقضى الاحتكار فى مكان، انقضى فيه الاستعمار على أثره، ويجوز لنا أن نقول ان "قوة الاستعمار تقاس بقوة الاحتكار"..
   قبلت الدول الاستعمارية سياسة الباب المفتوح بعد التشدد فى الاحتكار، لأن هذه السياسة كانت بديلا من الأزمات، والقلاقل، والحروب التى تتوالى نذرها، وتعطل التجارة، والصناعة جميعا، ولا تنحصر أضرارها فى نقص الثمرات، والأرباح؛ فظهرت روسيا، والمانيا، وايطاليا، والولايات المتحدة الى جانب انجلترا، وفرنسا، وهولندا، وبلجيكا من كبار الدول، وصغارها التى ورثت تركة الاستعمار، وصمدت آخر الأمر فى هذا المضمار، وليست هذه الدول الحديثة من هوان الشأن بالمكان الذى يتجاهله المستعمرون، أو يحمدون العاقبة اذا تجاهلوه..
   ولم يسجل تاريخ الاستعمار فى خطواته الأولى ضربه فى صميمة كالضربة التى جاءته من المستعمرات البريطانية، والأسبانية فى بلاد العالم الجديد؛ فان الثورة التى قضت على الاستعمار البريطانى فى أمريكا الشمالية انما كان قوامها أناسا من الانجليز، يعاونهم مواطنون لهم من الهولنديين، والجرمان، وسائر المهاجرين الى الشمال من الأوروبيين، وكذلك كانت ثورات الجنوب التى انتهت باستقلال الحكومات المختلفة فى القارة الجنوبية عن أسبانيا صاحبة السيادة عليها؛ فقد كان قوامها من المهاجرين الأسبان، والبرتغاليين، وأبنائهم المولدين، ولو كان الاستعمار نظاما قابلا للدوام لما قضى عليه أبناؤه بأيديهم قبل انقضاء جيلين من تاريخ الهجرة الى البلاد المستعمرة..
   كانت أزمة الحكومات فى عصر الرحلات الكشفية محصورة بين أيدى المحتكرين للبقاع، والضياع، ومعهم بعض المحتكرين للغلات، والثمرات التى تأتى من تلك البقاع، أو من تلك الضياع، ثم نشأت حركة التجارة العالمية، ونشأت على آثارها حركة الصناعة الكبرى؛ فاتسعت دائرة الحكومة، ودخل فى زمرة الحاكمين أناس لم يحسبوا قط من قبل الا فى عداد المحكومين الخاضعين لولاة الأمر بغير مشورة، وبغير صوت مسموع؛  ذلك أن الصناعة الكبرى قد نشأت، وأنشأت معها أصحاب المعامل، وعمالها المسخرين فى خدمتها، وكان أصحاب المعامل، وعمالها سواء فى مبدأ الأمر فى طلب حصتهم من السلطة الحكومية، ثم افترق هؤلاء فأصبحت كل زيادة فى حصة العمال نقصا فى حصة أصحاب  المعامل، والأعمال..
   كان "انجلز" يقول ان العمال فى انجلترا "عمال" بالنسبة الى أصحاب الأموال فى بلادهم، ولكنهم "برجوازيون" بالنسبة الى شعوب المستعمرات التى تملكها الدوله البريطانية لأنهم يظفرون بالاجور العالية،  فربما صح كلام انجلز فى جملته اذ نظرنا الى السياسة الاستعمارية التى صمد عليها العمال الانجليز بعد حصولهم على حقوق الانتخابات، ووصولهم الى دسوت الوزارة..
   تتخلص الأسباب الدينية للاستعمار فى ارتباط سياسة أوروبا الغربية بسياسة الكنيسة فى عصر من أحرج عصورها، وأشدها اشتباكا بأزمات الخصومة، والمقاومة، ومحاولة الثبات فى وجه التيارت العصرية التى كانت تجرى فى غير مجراها، فقد كان عصر محكمة التفتيش، وعصر الانشقاق بين الهيئات الدينية، والهيئات السياسية، وكانت الصبغة غالبة على سياسة الحكومات فى أوروبا الغربية، وفى شبه جزيرة الأندلس على الخصوص لاشتباكها زمنا طويلا بالحروب المتوالية بينها، وبين مسلمى الأندلس، والمغرب الأقصى، وحدث فى الأقطار الأمريكية التى ارتادها الفرنسيون القساوسة أنهم كانوا يحرمون على مخالفى الكنيسة دخول تلك الأقطار، ويخرجونهم منها اذا دخلوها بغير اذن من المراجع الدينية..
   وماحدث قط فى تاريخ الصراع بين الشعوب أن قويا منتصرا أخضع قوما لسلطانه بمحض القوة المادية، أو رهبة السلاح دون سواها، وانما يخضعهم، ويطيل خضوعهم له أن يروعهم بشىء من الاعجاب يملأهم ثقة بامتيازه، ورجحانه، ويزعزع ثقتهم بأنفسهم بين يديه، وهذا هو السلاح الأكبر الذى يصيب الضحية بمثل "الشلل النفسانى"، فلا تقدر على الحراك حتى تفيق من غشية ذلك الاعجاب؛ حتى خيل اليهم أن الخضوع لهم ضربة لازب، وأن التمرد عليهم ضرب من المحال..
   فلولا هذه النهضات الوطنية لما كانت سائر العوامل العالمية كافية لاخراج المستعمرين من مستعمراتهم فى هذه الفترة الوجيزة؛ بالقياس الى أعمار الشعوب، وأشهر أنواع الاستعمار هو الاستعمار الاقتصادى، واستعمار التوطن، واستعمار الموقع، أو الاستحكامات العسكرية، والولايات المتحدة الأمريكية هى النموذج الجديد للدولة العالمية منذ الربع الثانى من القرن العشرين، وشغلها الخلاص من الاستعمار الأوروبى فى تاريخها الأول عن الدخول فى ميدان الاستعمار، والمغامرة مع المستعمرين، ثم شغلتها حروب التوحيد، والتوطيد عن السياسة الخارجية فى غير هذه القضية، ثم شغلها بعد ذلك أن تحمى نفسها من الاغارة الجديدة؛ فشرعت لها مذهبا يحرم على الأوروبيين أن يحتلوا أرضا من العالم الجديد، أو يتدخلوا فى مشكلاته بقوة السلاح، وأوشكت أن تجعل التعامل معه محرما على غيرها لولا أن التعامل الاقتصادى فى تلك الحقبة على الخصوص لم يكن قابلا للتقييد..
 (تعليق: لاحاجة للولايات المتحدة الى مستعمرات..  فهى أصلا مستعمرة، وأرض مسروقة..  بكر؛ عالم جديد، فلم يسعوا سعى المستعمرين القدامى لأنهم فى غنى عنه، فلا تنطبق عليهم شروط الاستعمار، وان كانت قد ساعدت الاستعمار)..
   وفى أثناء ذلك كانت الولايات المتحدة تفعل كل ما تستطيعه لتوسيع رقعتها فى القارات الامريكية بالتعاهد، والشراء، أو بالقوة اذا تعذر الاتفاق على التعاهد، والشراء، واشترت "ألاسكا" سنة 1867 من روسيا، وحاربت أسبانيا سنة 1898 من جراء الفتنة فى جزيرة "كوبا" فأسفرت الحرب عن نزع "جوام"، و"بورت ريكو"، و"جزر الفلبين" من الدولة الأسبانية، وضمها الى أملاك الولايات المتحدة، ثم استتبع ذلك أن تضم اليها جزر "هاواى" تلبية لدعوة المتوطنين من رعاياها..  
   من دوافع السياسة الخارجية الأمريكية احباط الدعوة الشيوعية، وضرب الحصار عليها للرجوع بها الى أضيق حدودها، وتخفيف الضغط الداخلى الذى يتجدد على الدوام من فرط التضخم المالى فى الأسواق الأمريكية؛ فان ارسال التبرعات، والمعونات الى الخارج مصرف ضرورى للأموال المتجمعة فى بلاد الولايات المتحدة..