الثلاثاء، 19 فبراير 2013

الاسلام بين العلم والمدنية




    كتاب الإمام محمد عبده "الاسلام بين العلم والمدنية" عبارة عن رد على مقال لوزير خارجية فرنسا مسيو "هانوتو" في "جريدة الجورنال الباريسية" سنة 1900..
   يقول هانوتو:
-"وقدماء اليونان الذين يدينون بدين من قواعده تشبيه الإله بالإنسان في أوصافه المادية يقضى عليهم هذا الدين بالعمل، والحياة لاعتقادهم أن الإنسان، أو البطل يمكنه أن يعتبر في عداد الالهة بحسناته، وخيراته، أما المذهب المسيحي فيذهب في الأصل إلى الثالوث؛ أى أن الإله الأب أوجد الابن، واتصل الاثنان بصلة هي روح القدس، وعليه فيكون يسوع المسيح إلها، وبشرا؛ هذا الثالوث السري الذى أشتقت أصوله من ضرورة وجود اله بشرى يمحو ذنب الجنس البشرى، ويفديه من الخطيئة التي اقترفها يرفضه المسلم الذي يعتقد بوحدانية الرب، ويتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا شديدا حيث يقول لا اله إلا الله, فلذا ترى الديانتين المسيحية، والإسلامية احداهما بإزاء الأخرى من حيث البحث في القدرة الإلهية، والحرية البشرية..
   قال المسيو لوازون(القس ياسنت سابقا) معترفا ومقرا إن الاسلام هو الدين المسيحي محسا، ومحورا، ونصح الفرنسيين الذين يلتمسون دينهم المفقود أن يستعينوا بالإسلام للعثور على ضالتهم المنشودة..
   وما أسوا مغبة ذلك الجهل إذا كانت العلاقة بينهم وزارة مستعمراتنا، أو رجال حكومتنا المركزية التي يديرها أحد عشرا وزيرا ربما لا يوجد من بينهم سوى واحد، أو اثنين أنعما النظر في خريطة الأنحاء الواسعة، والأصقاع القصية التي عهد إليهم أمر أدارتها، وتنظيمها..
   أشرت سابقا إلى الصلة الأكيدة بين السياسة، والدين في العالم الاسلامى إذ ينحصر الوطن عندهم في الاسلام على الرغم من ذلك فقد حصل انقلاب عظيم في بلد من هذه البلاد فصلت فيه السلطة الدينية عن السلطة السياسية؛ وهو القطر التونسي بحيث وطدت الآن دعائم السلطة المدنية من غير أن يلحق مساس بالدين بتسرب الأفكار الأوروبية بين السكان بدون أن يتألم فيها الايمان المحمدي، واقتربت السلطة الفرنسية بالسلطة الوطنية..
   إذن يوجد الآن بلدا من بلاد الاسلام قد ارتخى..  بل انفصم الحبل بينه، وبين البلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال ببعضها البعض؛ إذن توجد أرض تنفلت شيئا فشيئا من مكة..
   دمر الرومان "قرطاجة" تدميرا كاملا عام 146 ق.م . بعد هزيمة "هانيبال" القائد الافريقى في موقعة "ترازمين" سنه 202 ق.م."..
   ومن حديث هانوتو  لصاحب "جريدة الأهرام" في نفس السنة، وهو الأستاذ "بشارة تقلا" في باريس.. يقول بشارة:
-"إن تقدم الشرق يكون بتقدم الأمة الإسلامية"، ويرد هانوتو:
-"إن كثيرا من الكتاب الألمان، والفرنسيين، والإنكليز تقول خلاصة كتاباتهم إن تقدم المسلمين مستحيل، ونجاحهم بعيد لأن الاسلام معتقدهم يحول دون ذلك، وحجتهم أنه كلما تقدمت أوروبا تأخر الشرق، وأن كل حكومة انفصلت عن الشرق سارت على منهاج أوروبا علما، ومدنية نجحت مع أن الدولة العثمانية، وأفغانستان، ومراكش، والعجم لا تزال على ما كانت عليه.. "ريشيليو" الرجل الكاثوليكي، وكردينال من أعمدة الكنيسة الرومانية رفض على عهد وزارته سياسة الصليبيين، وحال دونها بدهائه المعروف مع أنه كان القابض على سياسة فرنسا، وأوروبا معا..
   فاعلم أن أوروبا حاربت السلطة الدينية مده ثلاثة قرون لا عن عدم اعتقاد؛ بل لتفصلها عن السلطة المدنية؛ فان المتحاربين كانوا من معتقد واحد، وريشيليو هو الذي قال بفصل السلطتين..
   وما نريد تأييده نحن الفرنسيين في مستعمراتنا أن يكون الأمر المطلق للسلطة الحاكمة، مع احترام عقائد الشعوب..
   وضيق أوروبا بأهلها دفعها إلى الاستعمار في كل صوب؛ فصادف أبناؤها أرضا واسعة، وشعوبا لا حراك لها؛ فقبضوا على الأعمال السياسية، والاقتصادية فيها..
   واعلم أن فرنسا مضطرة ما دامت لا تقدر على منع الدول الأخرى عن توسيع نطاقها الاستعماري، والتجاري إلى الإقتداء بالدول المذكورة ولكن أما حان لهم أن يعلموا أن الأوربيين مهما اختلفت أجناسهم، ومذاهبهم؛ من السهل اتفاقهم على الشرقيين؟!..  فأوروبا لا تسعى إلا إلى مصلحتها السياسية..
   بعض دول أوروبا اتفقت مع "الدولة العثمانية" على دول أخرى مسيحية في أوروبا في "حرب القرم"..  فنحن، وإنكلترا لم نبخل بالمال، والرجال لمساعدة دولتكم العثمانية، ونحن، وروسيا، والمانيا منعنا بعض دول أوروبا من نيل أغراضها في "المسألة اليونانية"، وهذه الدول الثلاث خدمت سلطتكم أجل خدمة في "المسألة الأرمنية"..
   فرنسا، وبولونيا، وغيرها حالفت الدولة العثمانية ضد دولة ثانية مسيحية..  فضالة أوروبا المصلحة الاقتصادية، والسياسية، ولا دخل للاعتقاد البتة في أعمالها..
   ليست العبرة في أقامه المدرسة فقط.. بل في وضع "البروجرامات" المدرسية،  كما أن العلم وحده لا يكفى، وقد يضر إذا لم يمزج بالتهذيب، فاني لا أجهل أن كثيرين من أبناء الشرق درسوا في أوروبا، وقد يربو عددهم على عدد اليابانيين الذين درسوا في أوروبا أيضا"..
   وفى رد الإمام عليه:
"هل خطر ببال مسيو هانوتو أن يجعل ما لله لله، وما لقيصر لقيصر كما أوصى الإنجيل، وهل رأى مثالا لذلك في "المدنية الآرية" التي تآخت مع الدين المسيحي؟!..
   العيان يدلنا على أن شيئا من ذلك لم يكن؛ فان هذه المدنية إنما هي مدنية الملك، والسلطان.. مدنية الذهب، والفضة.. مدنية الفخفخة، والبهرج..  مدنية الختل، والنفاق، وحاكمها الأعلى هو الجنيه عند قوم، والليرة عند قوم آخرين، ولا دخل للإنجيل في شي من ذلك، وأصبحوا لا يحتملون أن يروا لهم رعايا من غير دينهم؛ فضلا عن ملوك،  وقد أخذ الغرب الآرى عن الشرق السامي أكثر مما يأخذه الآن الشرق المضمحل عن الغرب المستقل،  وقد خاض الامام في تفضيل التشبية، والتجسيم على التوحيد فيما لامجال لذكره..
   جاء القرآن، وأثبت الكسب، والاختيار في نحو أربع وستين آية:
-"ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة"..  لكن ما عليه الأمم من الاختلاف في الطبائع، والغرائز، والسجايا ليس لأحد من خلق الله فيه اختيار بل خلقه كخلق السموات، والأرض، وما بينهما؛  حتى كان من آثارهم(الصحابة) في نشر الاسلام ما يتألم منه اليوم هانوتو، وأمثاله، فلم يتلمظوا بشي من نعيم الحضر، ولم يتذوقوا طعم العلم، والصنعة حتى بلغت بهم ما بلغت، واستوت بهم على عروش العزة، والسلطان، ولكن واسفاه نشأت رءوس بين المسلمين كأنها رءوس الشياطين، واحتملت غثاء من قمش الآريين، وقذفت به في الأرض الطاهرة فتدنس به أديمها، وانتشر قذره، وعظم ضرره، جاء الموالى من عجم الفرس، والرومان ولبسوا لباس الاسلام، وحملوا إليه ما كان عندهم من شقاق، ونفاق، وأحدثوا في الدين بدعه الجدل في العقائد، وخالفوا الله، ورسوله في النهى عن الخوض في القدر، وخدعوا المسلمين ببهرج القول، وزور الكلام حتى كان ما كان من تفرقهم شيعا، والله يقول لنبيه:
-"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شي"..  
   ولكن لا أنكر أن الزمان تجهم للمسلمين كما كان قد تنكر لغيرهم، وابتلاهم بمن فسد من المتصوفة من عدة قرون..  فبثوا فيهم أوهاما لا نسبة بينها، وبين أصول دينهم؛ فنشأ الكسل بين المسلمين، وفشا الجهل بأصول دينهم، وعاون على ذلك ميل الأعلياء منهم إلى توريطهم فيما هم فيه، وهذا الضرب من المتصوفة أيضا من حسنات الآريين، فانه جاءنا من الفرس، والهنود بما بقى من عقائدهم الاولى..
   ما أضل هانوتو، وأمثاله من قصار النظر إلا أولئك الدراويش الخبثاء، أو البله الذين  يغشون أطراف الجزائر، وتونس، ولا يخلو منهم اليوم قطر من أقطار الإسلاميين اتخذ دينه متجرا يكسب به الحكام، وجعل من ذكر الله آلة لسلب الأموال من الطغام، نشأ اليونانيون وثنيون، ولا زالت الوثنية ترق، وترث بارتقائهم في العلوم،  وألبس قدماء المصريين التنزيه ثوب التشبيه استئثارا منهم بشرف العقيدة على من دونهم، ومن ذلك كانت ترتكب القبائح في هياكل الآلهة، وتنتهك حرمات الفضائل في محاربها، وتفترس الذبائح الإنسانية بين يدي التماثيل الحجرية، وقد سهل هذا الوهم على كثير من أهل الدهاء أن ينزلوا من الناس منازل الآلهة طمعا في استعبادهم، ويقرب من هؤلاء المعتقدون بالوسائط ما قدروا الله حق قدره؛ فقاسوه على الكبراء منهم، فظنوا أنه في ملكوته كملك في جبروته، يصطفى لنفسه مدبرين من خلقه للتصرف في شئون عباده، فإذا امتاز أحدهم بما يعتقدونه زلفى إلى الله اتخذوه شفيعا لديه، يلجأون إليه في مهمات أعمالهم، ويستجدون منه المعونة بما له من الدالة على ربه، ويقولون:
-"ما نعبدهم إلا لقربونا إلى الله زلفى"..  فاستعبدوا للسادن، والكاهن، والزعماء، ووارثيهم، واستسلموا لهم في جميع شئونهم؛ فتركوا وسائل العمل اتكالا على ما يستمدونه منهم..
(فى هامش الكتاب: الإمبراطور "قسطنطين" الروماني أول من اعترف بالدين المسيحي عام 306م...  فأصدر "مرسوم ميلان" سنه 313م.، ونقل عاصمة الإمبراطورية من "روما" إلى "بيزنطية"، وأطلق عليها "القسطنطينية" نسبة إليه لتكون عاصمة مسيحية خالصة، ويقال انه وهو يشق طريقه من غرب أوروبا إلى العرش الامبراطورى ليقضى على منافسه على العرش  "ماكنتيوس" شاهد علامة الصليب في السماء، ومكتوب عليها "بهذه العلامة سننتصر")..
   يصرحون أن المسيحية لا مكان للعقل فيها؛ فذهبت طوائف منهم في أزمان مختلفة بأن هناك فرقا بين ما لا يصل إليه العقل، وما يناقض حكم العقل، وذهبت إلى أن المسيح لم يكن إلا نبيا مختارا، بعثه الله لخلاص البشر من سلطان الشيطان، وحملوا الابن على المصطفى(المختار)، والآب على الرب الرحيم..
   انى اكتفى بقول جماعة من أهل النظر في الأمم الغربية اليوم:  
-"أقامت النصرانية في الأرض ستة عشر قرنا، ولم تأت بفلكي واحد، وأخذ المسلمون يبحثون في هذه العلوم بعد وفاة نبيهم ببضع سنيين"..
   يجب على الباحث في الاسلام أن يطلبه في كتابه، كما يجب عليه أن يطلب آثاره..  فالإسلام إسلام، والمسلمون مسلمون،  اتبع المسلمون سنن من قبلهم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى سقطوا في مساقطهم، وطارحوهم الأوهام حتى انجروا إلى مطارحهم، وباءوا بما كان لهم، وما عليهم..
   الاسلام إن طالت به غيبته فله أوبه، وان صرعته النوائب فله نوبة، يقول القس "إسحاق تيلر" رئيس احدى الكنائس الإنجليزية عن الاسلام: 
-"انه يمتد في أفريقيا، ومعه تسير الفضائل حيث سار، وفى المقابل يأسف أشد الأسف من أن السكر، والفحش، والقمار انتشرت بين السكان بانتشار دعوة المبشرين بينهم"..  فما ظنك بالمسلمين وهم لا يرون من المتغلبين عليهم إلا الجد في إهلاكهم، والدأب على إخفائهم، وقد تألفت قوى الأمم الأوروبية من عناصر هي العلم، والأدب، والتجارة، والصناعة، والعدل، والدين، والسلاح؛ ولأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوروبا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين، والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها، وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلمهم، وفى فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها..
   لا أنكر أن طائفا من الدين طاف في هذه السنين الأخيرة بعقول بعض المسلمين في أقطار مختلفة من الأرض، ولم يكن من أصول الدين "أن يدع ما ليقصر لقيصر"..  بل كان من شأنه أن يحاسب قيصر على ماله، ويأخذ على يده في عمله، وما ظنك بدين يقول خليفته الثاني(عمر بن الخطاب):
-"لو أن سخلة بوادي الفرات أخذها الذئب لسئل عنها عمر"،  ويقول خليفته الرابع(على بن أبى طالب):
-"يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في خشونة العيش؟!" ويقول:
-"ان هؤلاء القوم قد لبسوا الدين كما يلبس الفرو مقلوبا"..
   فالرجل، والمرأة سواء في الخطاب الديني التكليفى، وكانوا سواء في علم ما يجب عليهما من فرائض الاسلام، وخصال الايمان، وفى طلب العلم ما يلزم لصلاح معادهما، ومعاشهما..  ضل المسلم بعد ذلك فى معنى العلم فظن الرجل إن غاية ما يفرضه الدين معرفه فرائض الوضوء، والصلاة، والصوم في صورة أدائها، أما ما يتعلق بسر الإخلاص فيها، ووسيلة قبولها عند الله فذلك مما لا يخطر ببال إلا القليل النادر، أما آداب الدين، وتهذيب الروح، واستكمال الخصال الجليلة مما جعله الاسلام غاية العبادات، وثمرة الأعمال الصالحات فهو مع انه أهم علوم الدين مما لا تتوجه إليه عزيمة، ولا تنصرف نحوه ارادة، اللهم إلا من أشخاص قلائل..
   أما من ينقطعون لطلب العلوم ليحصلوا جمله منها فقد انقسموا إلى فريقين:
الأول من يظن أنه وارث علوم الدين، والقائم بحفظها، ولا يجب عليهم أن يأمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، وللكثير منهم..  بل الأغلب من سوء الفهم في الدين ما لا حاجة إلى عده، وهذا فريق لا يظهر له أدنى أثر في صلاح الأمة كما هو مشهود..
والفريق الثاني من يهيؤه أولياؤه لنيل منصب، لا يهمهم شأن العامة شقيت، أو سعدت؛ فأى أثر لما تعلمه هؤلاء يظهر في الأمة؟!..
   أما النساء فقد ضرب بينهن، وبين العلم بما يجب عليهن في دينهن، أو دنياهن ستار لا يدرى متى يرفع، ولا يخطر بالبال أن يعلمن عقيدة، أو يؤدين فريضة سوى الصوم..
  أخطا المسلم في فهم معنى الطاعة لأولى الأمر، والانقياد لأوامرهم، ومن رأى حزم الآباء إذا طلب أبناؤهم لأداء الخدمة العسكرية، وعرف ثقتهم بالحاكم قد بلغت إلى حد التأليه من حيث ظنوه قادرا على شيء بدون عون من أحد، وانقلبت تلك الثقة إلى الإدبار، والتخلي عنه،  ومن هنا انصرف المسلم عن النظر في الأمور  العامة جملة، وضعف شعوره بحسنها، وقبيحها اللهم إلا ما يمس شخصه منها..
   أما الحكام وقد كانوا أقدر الناس على انتشال الأمة مما سقطت فيه فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور الأعظم من العامة، لا يرعون في ذلك عدلا، ولا يستشيرون كتابا، ولا يتبعون سنة؛ حتى أفسدوا أخلاق الكافة بما حملوها على النفاق، والكذب، والغش، والإقتداء بهم في الظلم، لا ينظر أحد إلى حق، ولا يفزع من باطل، وإنما همه أن يظفر بخصمه، وذلك الخصم هو ما يدعوه أخا له في الاسلام في معرض التشدق بالكلام، وأكبر بدعة عرضت للمسلمين اليأس من أنفسهم، ودينهم، وظنهم أن فساد العامة لا دواء له، وأنه لا يمر عليهم يوم إلا والثاني شر منه لتركهم المقطوع به من كتاب ربهم، وسنة نبيهم، وتعلقهم بما لم يصح من الأخبار، أو خطئهم في فهم ما صح منها..  وما يرمى به المسلمون من التعصب الديني الأعمى لا أسلم أنهم بلغوا فيه أدنى درجاته في الأمم المسيحية شرقية كانت، أو غربية، والتاريخ شاهد لا يكذب..
   هذا ما أصاب المسلمين في عقولهم، وعزائمهم، وأعمالهم بسبب ابتداعهم في دينهم، وخطئهم في فهم أصوله، أو جهلهم بأدنى أبوابه، وفصوله، ولهذا سلط الله عليهم من يسلبهم نعمة لم يقوموا بشكرها، وينزل بهم من عقوبة الكفران ما لا قبل لهم بدفعه، وقد ابتلاهم بمن يلصق بدينهم كل عيب، ويعده حجابا بين الأمم، والمدنية..  بل يعده منبع شقائهم، وسبب فنائهم، وتنبه لذلك  أفراد من عقلاء المسلمين أواسط القرن الماضي من سني الهجرة وكل منهم بحث في الداء وقدر له الدواء بحسب فهمه على تقارب بينهم، واتفقوا على تصحيح الاعتقاد، وازالة ما طرا عليه من الخطأ في فهم نصوص الدين، ثم تبع ذلك سلامة الأعمال من الخلل، والاضطراب..
   فان إتيانهم من طرق الأدب، والحكمة العارية عن صبغة الدين يحوجه إلى إنشاء بناء جديد ليس عنده من مواده شي، ولا يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا، وإذا كان الدين كافلا بتهذيب الأخلاق، وصلاح الأعمال، وحمل النفوس على طلب السعادة من أبوابها، ولأهله من الثقة به ما بيناه وهو حاضر لديهم، والعناء في إرجاعهم إليه أخف من إحداث ما لا إلمام لهم به، فلم العدول عنه إلى غيره؟..
   ولو رجعوا إلى الأخذ بالصحيح من دينهم لاعتصموا بجامعتهم، واستعانوا على تقويم أمورهم بأنفسهم، واستغنوا عمن ادخلوه في أعمالهم من غيرهم، فيحرم الكثير من المسيحيين تلك المنافع التي نالوها بغفلتهم، وهو سوء ظن من الزاعم بنفسه، والأجنبى الذي كان ينفق الواحد، ويربح المائة يرجع إلى الاعتدال في الكسب، وقد كان المسيحيون عاملين في الدول الإسلامية وهى في عنفوان قوتها، والأجانب يطلبون الكسب في أرجائها، وهى في أرفع مقام من عزتها..
   لم يعرف المسلمون في عصر من الأعصر تلك السلطة الدينية التي كانت للبابا على الأمم المسيحية عندما كان يعزل الملوك، ويحرم الأمراء، ويقرر الضرائب على الممالك، ويصنع لها القوانين الإلهية، وقد قررت الشريعة الإسلامية حقوقا للحاكم الأعلى، وهو الخليفة، أو السلطان ليست للقاضي صاحب السلطة الدينية، ولكن السلطان مدبر البلاد بالسياسة الداخلية، والمدافع عنها بالحرب، أو السياسة الخارجية، وأهل الدين قائمون بوظائفهم وليس له عليهم إلا التولية، والعزل، وليس لهم عنده إلا تنفيذ الأحكام بعد الحكم، ورفع المظالم إن أمكن، وهذه الدولة العثمانية قد وضعت في بلادها قوانين مدنية، وشرعت نظاما لطريق الحكم، وعدد الحاكمين، ومللهم، وسمحت بأن يكون في محاكمها أعضاء من المسيحيين، وغيرهم من الملل التي تحت رعايتها، وكذلك حكومة مصر أنشئت فيها محاكم مختلطة، ومحاكم أهلية بأمر الحاكم السياسي، وشأن هذه المحاكم وقوانينها معلوم، ولا دخل لشىء من ذلك في الدين..  فالسلطة المدنية مع ذلك لم يظهر نفعها في صلاح حال المسلمين؛ بل كان الأمر معكوسا..
   إن فرنسا تسمى نفسها حامية الكاثوليك، وملكة انجلترا تلقب بملكة البروتستانت، وإمبراطور الروسيا ملك، ورئيس كنيسة معا؛ فلم لا يسمح للسلطان عبد الحميد أن يلقب بخليفة المسلمين، أو أمير المؤمنين؟!.. وكثير من المسيحيين نالوا من الامتيازات، والمنافع في الدولة ما لم يناله مسلم، إقبال السلطان على رؤساء الطوائف المسيحية، وانعامه عليهم بوسامات الشرف، وإنما كانت الدولة العثمانية في سابق الأيام دوله فتح، وغلبة، وفى أخرياتها دولة سياسية، ومدافعة، ولا دخل للدين في شي من معاملاتها مع الأمم الأوروبية..
   كثيرا ما أغرى الأوروبيون من فرنسيين، وأمريكيين من أرباب المدارس في مصر شبانا من المسلمين بالمروق من دينهم، والدخول في الديانة المسيحية، وفروا ببعضهم من القطر المصري إلى البلاد الأجنبية، وأحرقوا أكباد آبائهم، ومع ذلك لا نزال نرى المسلمين يرسلون أولادهم إلى مدارسهم، وناظر المعارف عندنا وزير مسلم، وأولاده يتربون في مدارس الجزويت، وكثير من أبناء الأعيان في مدارس الفرير؛ فأى ائتمان يفوق هذا الائتمان؟!..
   زادت ثقة المصريين من المسلمين بالأوروبيين؛ خصوصا في المعاملات حتى أساء أولئك الأوروبيون استعمالها، وانتهزوا فرصتها، وسلبوا كثيرا من أهل الثروة ما كان بأيديهم، ومع ذلك فهم لا يزالون يأمنونهم، ويغالون في الاستنامة اليهم، ويقلدونهم فيما يخالف دينهم، وعوائدهم؛ فماذا يطلب من الثقة فوق هذا؟..
   هل يشكو عقلاء المسلمين في مصر من شي مثل ما يشكون من الثقة العمياء بالاجنبى؛ من غير تمييز فيما هو عليه من إخلاص، أو غش من صدق، أو كذب، من أمانة، أو خيانة، من قناعة، أو طمع حتى آل الأمر بالناس إلى ما آلوا إليه من خسارة المال، وسوء الحال؛ فهل هذا هو فقد الثقة بالأوروبيين، والعثمانيين المسيحيين الذي يعنيه حضرة صاحب الأهرام وجناب مسيو هانوتو؟..
(والتعليق هو.. هل تغير المسلمون هذه الأيام فى شىء عما رصده الامام منذ مايقرب من قرن؟!).. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق