كتاب الحسين
بن على أبو الشهداء – عباس محمود العقاد – طبعه نهضة مصر الثانية 1998..
يعرض الكتاب
للنزاع بين "الطالبيين"، و"الأمويين", ولاسيما النزاع بينهما
على عهد "الحسين بن على", و"يزيد بن معاوية"..
يقول العقاد:
قلنا في كتابنا "عبقرية الإمام" ما فحواه:
-"إن الكفاح بين "على"، و"معاوية"
لم يكن كفاحا بين رجلين، أو بين عقلين, وحيلتين, ولكنه كان على الحقيقة كفاحا بين
"الامامة الدينية", و"الدولة الدنيوية", وأن الأيام كانت أيام
دولة دنيوية.. فغلب الداعون الى هذه
الدولة من حزب معاوية, ولم يغلب الداعون الى الامامة من حزب الإمام"..
ويقول العقاد
عن هذه الدولة:
-"بل لايمكن أن يتعلل أحد هنا بما يتعلل به أنصار
المنافع عامة من تقريره للنظام، وحفظه للأمن العام".. فان يزيدا لم يكن له فضل قط فى قيام الدولة، وإنما
كانت الدوله تتماسك برغبة الراغبين فى بقائها، لا بقدرة الأمير المشرف عليها، وقد
حدث بعد موت يزيد أن بويع ابنه "معاوية الثاني" بالشام – وكان زاهدا فى
الحكم - فنادى الناس الى صلاه جامعة وقال
لهم:
-"أما بعد فاني قد ضعفت عن أمركم فابتغيت لكم مثل
عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم
فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم"..
ثم آوى الى
بيته، ومضت شئون الدولة على حالها حتى مات بعد ثلاثة أشهر، وله مع هذا منافس قوى "كعبد
الله بن الزبير" بالحجاز"..
تنافس "هاشم"،
و"أمية" على الزعامة قبل أن يولد "معاوية".. فخرج أمية ناقما
الى الشام، وبقى هاشم منفردا بزعامة "بنى عبد مناف" فى مكة.. ثم علا نجم "أبى سفيان بن حرب بن أمية"
فى الحجاز.. فأصبحت له زعامة مرموقة الى
جانب الزعامة الهاشمية؛ فلما ظهرت الدعوة المحمدية أخذته الغيرة على زعامته فكان
فى طليعة المحاربين للدعوة الجديدة، وبلغ من تغلغل العداء فى هذه الأسرة للنبي صلى
الله عليه وسلم أن "أبا لهب" عمه كان أوحد أعمامه فى الكيد له، والتأليب
عليه، وإنما جاءه هذا من بنائه "بأم جميل بنت حرب" أخت أبى سفيان التي
وصفها القران بأنها "حمالة الحطب" كنايه عن السعي فى الشر، وتأريث نار
البغضاء..
وقبض النبي
عليه الصلاه والسلام، وانقضت خلافة أبى بكر، وخلافة عمر والأمور تجرى مجراها الذي يأخذ
على المطامع سبيلها، ويخيف أصحاب الفتن، وأبو سفيان مشراب الى الفتن يخيل إليه أنه
مصيب بين فتوقها ثغره ينفذ منها الى السيادة على قريش، ثم السيادة من هذا الطريق
على الأمة الاسلامية بأسرها.. حتى قامت خلافة عثمان بن عفان فانتصر بها الأمويون
أيما انتصار، وأصبحت الدولة الإسلامية "أموية" لا يطمع فى خيراتها، ولا
ولاياتها الا من كان من أمية، أو من حزبها، "فمروان بن الحكم" وزير
الخليفة الأكبر، و"معاوية بن أبى سيفان" والى الشام ، فلما قتل "على
بن ابى طالب" غيلة، وخلصت الخلافة لمعاوية بن أبى سيفان، ثم بايع أناس من أهل
العراق، وفارس "الحسن بن على" فلم يستقم له أمرهم، وضاق صدره بجدالهم،
فصالح معاوية على شروط..
كتم معاوية فى
نفسه أن يجعلها دولة أموية متعاقبة فى ذريته من بعده.. فمهد لبيعة ابنه "يزيد"؛ فلباه أهل
الشام، وكتب بيعته الى الآفاق، ثم أهمه أمر الحجاز فكتب الى "مروان بن الحكم"
عامله فأبى، وأغرى رؤوس قريش بالإباء، لأنه
كان يتطلع الى الخلافة بعد معاوية ويحسبه أقدر عليها من يزيد لما اشهر به من نقص،
وعبث، فعزله، وولى "سعيد بن العاص" مكانه، فلم يجبه أحد الى ماأراد؛
فكتب معاوية الى "عبد الله بن عباس"، و"عبد الله بن الزبير"،
و"عبد الله بن جعفر"، و"الحسين بن على".. فما زال بهم بالمال، والملاطفة، ثم التهديد بالسيف
حتى بايعوه بعد أن ذهب اليهم بالحجاز، وبايع الناس فى المسجد..
لخص المقريزى
المنافسة التي كانت بين الهاشميين والأمويين فى بيتين فقال:
عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حربا يشيب منها الوليد
فابـــــن
حرب للمصطفى وابن هند لعلى،وللحسين
يزيد
ولكن الأسرتان
تختلفان فى الاخلاق، والأمزجة، وان اتحدا فى الأرومة.. فبنو هاشم فى الأغلب مثاليون أريحيون، ولاسيما أبناء
فاطمة الزهراء، وبنو أمية فى الأغلب الأعم عمليون نفعيون، ولاسيما الأصلاء منهم فى
عبد شمس من الآباء، والأمهات..
كذلك ينبغي أن
نذكر حقيقة أخرى فى هذا االمقام وهى أن معاوية لم يكن من كتاب الوحى كما أشاع خدام
دولته بعد صدر الإسلام، ولكنه كان يكتب للنبى صلى الله عليه وسلم فى عامة الحوائج، وفى إثبات ما يجبى من الصدقات، وما يقسم فى أربابها،
ولم يسمع عن ثقة قط أنه كتب للنبي من آيات القران الكريم..
ولما تنازعا
البيعة كان "الحسين" فى السابعة والخمسين مكتمل القوة، ناضج العقل، وافى
المعرفة بالعلم، والتجربة، وكان يزيد فى نحو الرابعة والثلاثين لم يمارس من شئون الرعاة،
ولا الرعية ماينفعه بين هؤلاء، أو هؤلاء؛ فقد كان توريث معاوية ابنه على غير وصية
معروفة من السلف بدعة هرقلية كما سماها المسلمون فى ذلك الزمان، ولم يكن معقولا أن
العرب فى صدر الإسلام يوجبون طاعة يزيد لأنه ابن معاوية، وهم لم يوجبوا طاعة آل النبي
فى أمر الخلافة لأنهم قرابة محمد صلى الله علية وسلم، ولقد كان لمعاوية مشيرون من ذوى
الرأى "كعمرو بن العاص"، و"المغيرة بن شعبة"، و"زياد بن أبية"،
وأضرابهم من أولئك الدعاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول، وبناة عروش..
ولكن بقيت
ليزيد ابنه شرذمة على غراره أصدق ماتوصف به أنها شرذمة جلادين(تعليق: مرتزقة)
يقتلون من أمروا بقتله، ويقبضون الأجر فرحين، وكانوا فى خلائقهم البدنية على
المثال الذي يعهد فى هذه الطغمة من الناس ونعنى به مثال المسخاء المشوهين، أولئك
الذين تمتلىء صدورهم بالحقد على أبناء آدم، ولاسيما من كان منهم على سواء الخلق،
وحسن الأحدوثة، وشر هؤلاء "شمر بن ذي الجوشن"، و"مسلم بن عقبة"،
و"عبيد الله بن زياد"، ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم "عمر
بن سعد بن ابى وقاص"، والذين لم يمسخوا فى جبلتهم، وتكوينهم هذا المسخ من أعوان
ابن معاوية كان من الطمع فى المناصب، والأموال، واللذات قد بلغ مايبلغ المسخ من تحويل الطبائع، وطمس البصائر،
ومغالطة النفوس فى الحقائق..
عمل يزيد بوصية أبية.. فلم يكن له هم منذ قيامة على الملك الا أن يظفر
ببيعة الحسين، وعبد الله بن الزبير..
تلقى الحسين
دعوات المسلمين الى الظهور، وطلب البيعة، ولاسيما أهل الكوفة، ومجاورها.. فآثر أن يرسل اليهم ابن عمه "مسلم بن عقيل
بن أبى طالب" يمهد له طريق البيعة.. فكان مقتل مسلم بن عقيل فى التاسع من ذي الحجة
ليلة العيد، وكان خروج الحسين من مكة قبل ذلك اليوم بيوم واحد فلم يسمع بمقتله الا
وهو فى آخر الطريق، ولم ير الحسين بعد ذلك أن يصحب معه أحدا الا على بصيرة من أمره؛
فخطب فى الرهط الذين صحبوه، وقال لهم:
-"وقد خذلنا
شيعتنا.. فمن أحب منكم أن ينصرف فليس
عليه منا ذمام".. فتفرقوا الا أهل بيته، وقليلا ممن تبعوه فى الطريق، والتقى
الركب عند "جبل ذى حسم" بطلائع جيش "عبيد الله بن زياد" والى
الكوفة يقودها "الحر بن يزيد التميمى اليربوعى" فى ألف فارس أمروا بأن
لايدعوا الحسين حتى يقدموا به على "عبيد الله" فى الكوفة، ثم تياسر الحسين الى طريق العذيب فبلغها، وفرسان
عبيد الله يلازمونه، ويصرون على أخذه الى أميرهم، وصده عن وجهته حيثما اتجة غير
وجهتهم، ثم توجه اليه الحر يحذره:
-"لئن قاتلت لتقتلن".. فرد عليه الحسين:
-"أبالموت تخوفني؟"..
وأشار عليه
أحد أصحابه "زهير بن القين" بقتالهم قبل أن يأتيهم مدد، فأعرض الحسين عن
مشورته قائلا:
-"انى أكره أن أبدأهم بقتال"..
أمر عبيد
الله عمر بن سعد بن أبى وقاص على رأس أربعة آلاف فارس بقتال الحسين؛ فاستعفاه عمر،
ولم يقبل عبيد الله.. فسار عمر بجيش على
مضض، وجنوده متثاقلون متحرجون الا زعانف المرتزقة الذين ليس لهم من خلاق، وكان
جنود الجيش يتسللون منه، ويتخلفون بالكوفة.. فندب عبيد الله رجلا من أعوانه هو "سعد بن
عبد الرحمن المنقرى" ليطوف بها ويأتيه بمن تخلف عن المسير لقتال الحسين، وضرب
عنق رجل جئ به فأسرع بقيتهم الى المسير، وقد أدرك الجيش الحسين وهو "بكربلاء"
على نحو خمسة وعشرين ميلاد الى الشمال الغربى من الكوفة، نزل بها فى الثاني من
المحرم سنة احدى وستين..
وخلا الجو فى
الكوفة لرجلين اثنين يسابق كلاهما صاحبه فى اللؤم، وسوء الطوية، وينفردان بتصريف
الأمر فى قضية الحسين دون مراجعة من ذى سلطان هما "عبيد الله بن زياد"،
و"شمر بن ذى الجوشن"..
عرفت "كربلاء"
قديما باسم "كور بابل".. صحفت الى كربلاء؛ فجعلها هذا التصحيف عرضة
لتصحيف آخر يجمع بين الكرب، والبلاء كما رسمها بعض الشعراء..
كان الجيش الذي
أرسله عبيد الله بن زياد لحرب الحسين جيشا يحارب قلبه لأجل بطنه، أو يحارب ربه لأجل
واليه.. اذ لم يكن فيهم رجل واحد يؤمن ببطلان دعوى الحسين، أو رجحان حق يزيد..
طال القلق على دخيلة عمر بن سعد فأطلق سهما فى الفضاء
فزحف الى مقربة معسكر الحسين، وتناول سهما فرماه عن قوسه الى المعسكر وهو يصيح:
-"اشهدوا لى عند الأمير أننى أول من رمى الحسين"..
ثم تتابعت السهام فقال الحسين، وهو ينظر
اليها وينظر الى أصحابه"
-"قوموا يا كرام فهذه رسل القوم اليكم".. وبدأ القتال؛ فاختار له رابية يحتمى بها من
ورائه، ووسع وهدتها حتى أصبحت خندقا
لايسهل عبوره، فأوقد فيه النار ليمنع عليهم الالتفاف عليه من خلف، وهم فى كثرتهم
التى ترجح عدة صحبه ستين ضعفا قادرون على مهاجمته من جميع نواحيه.. وكان معه اثنان وثلاثون
فارسا، وأربعون رجلا، وهم نيف وأربعة الآف يكثر فيهم الفرسان، وراكبوا الابل،
ويحملون صنوفا مختلفة من السلاح، ومع هذا التفاوت البعيد فى عدد الفريقين كان
العسكر القليل كفؤا للعسكر الكثير لو جرى القتال على سنة المبارزة التى كانت دعوة مجابة فى ذلك
العصر اذا اختارها أحد الفريقين، فان آل على جميعا كانوا من أشهر العرب، بل من أشهر
العرب، والعجم بالقوة البدنية، والصبر على الجراح، والاضطلاع بعناء الحرب ساعات
بعد ساعات..
والحسين رضى
الله عنه قد كان هو، ومن معه من شباب آل على ممن ورث هذه القوة البدنية، كما ورثوا
رباطة الجأش، وحمية الفؤاد، وكان معه نخبة من فرسان العرب كلهم له شهرة بالشجاعة،
والبأس، وسداد الرمى بالسهام، ومضاء الضرب بالسيف..
وقد بدأ
القتال بهجوم الخيل من قبل جيش ابن زياد؛ فأشرع أصحاب الحسين لها رماحهم، وجثوا
على الركب ينتظرونها؛ فعدل الفريقان الى المبارزة، فلم يتعرض لها أحد من جيش ابن
زياد الا فشل، أو نكص على عقبية، وعجز خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحسين، وهى
تنكشف كل ساعة عن فارس قتيل، فبعثوا بخمسمائة من الرماة فرشقوا أصحاب الحسين بالنبل
حتى عقروا الخيل، وجرحوا الفرسان والرجال..
وكان الذين
عدلوا الى عسكر الحسين أشد أنصاره يحمونه بأنفسهم، ولا يقاتلون الا بين يديه، فضاقت
الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، وسول لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا
الأخبية التى آوى اليها النساء، والأطفال ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته،
ثم أخذوا فى احراقها، وأصحاب الحسين يصدونهم ويدفعونهم، فرأى رضى الله عنه أن
يدعوها تحترق، ولا ينشغلوا عن قتالهم.. واذا بالرماح، والسيوف تنوشه من كل جانب، وإذا
بالقتل يتعدى الرجال المقاتلين الى الأطفال، والصبيان من عترته، وآل بيته، وسقط كل
من معه واحدا بعد واحد؛ فلم يبق حوله غير ثلاثة يناضلون دونه، وهو يسبقهم، ويأذن
لمن يشاء منهم أن ينجو بنفسه..
وكان غلام من
آل الحسين هو "عبد الله بن الحسن" ابن أخيه ينظر من الأخبية فرأى رجلا
يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فلما
هرول الغلام الى عمه تعمده الرجل بالسيف يريد قتله، فتلقى الغلام ضربته بيده
فانقطعت، وتلعقت بجلدها، فاعتنقه عمه، وجعل يواسيه وهو مشغول بدفاع من يليه..
ثم سقط
الثلاثة الذين كانوا معه؛ فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه، وكان يحمل على
الذين عن يمينه فيفترقون، ويشد على الخيل راجلا، ويشق الصفوف وحيدا، ويهابه
القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالإجهاز عليه ثم ينكصون، لأنهم تحرجوا فى قتله،
فغضب شمر بن ذى الجوشن وأمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، وصاح بمن حوله أن
يقتلوه.. فضربه "زرعة بن شريك التميمى" على يده اليسرى فقطعها، وضربه
غيره على عاتقه فخر على وجهه، ثم جعل يقوم، ويكبو وهم يطعنونه بالرماح، ويضربونه
بالسيف حتى سكن حراكه، ووجدت بعد موته رضوان الله عليه ثلاث وثلاثون طعنة، وأربعة
وثلاثون ضربة، غير اصابة النبل، والسهام، وأحصاها بعضهم فى ثيابه فاذا هى مائة
وعشرين.. ونزل "خولى بن يزيد الأصبحى" ليحتذ رأسه فملكته رعدة فنحاه شمر،
وأخذ الرأس، وأبى الا أن يسلمه اليه فى رعدته سخرية به، وتماديا فى الشر، وتحديا
به لمن عسى أن ينعاه عليه..
خسة ووحشية:
فقد قتل فعلا
فى كربلاء كل كبير، وصغير من سلالة على رضى الله عنه، ولم ينج من ذكورهم غير الصبى
"على زين العابدين" الذى نجا بأعجوبة، لأنه كان مريضا على حجور النساء يتوقعون
له الموت، وعندما هم شمر بن ذى الجوشن بقتله نهاه عمر بن سعد اما حياء من قرابة
الرحم أمام النساء، واما توقعا لموته من السقم، وحفظ به نسل الحسين، ولولا ذلك
لباد..
ثم قطعوا
الرؤوس، ورفعوها أمامهم على الحراب، وتركوا الجثث ملقاة على الأرض ليدفنونها، ولا
يصلون عليها كما صلوا على جثث قتلاهم، ومروا بالنساء حواسر من طريقهم فولولن
باكيات.. وقد كانت "زينب" رضى الله عنها حقا جديرة بنسبها الشريف فى تلك
الرحلة الفاجعة التى تهد عزائم الرجال.. فكانت كأشجع، وأرفع ما تكون "حفيدة
محمد"، و"بنت على"، و"أخت الحسين"، وكتب لها أن تحفظ
بشجاعتها، وتضحيتها بقية العقب الحسينى من الذكور، ولولاها لانقرض من يوم كربلاء..
وكان يوم المقتل فى العاشر من المحرم،؛
فكان القمر على وشك التمام؛ فخرج جماعة من بنى أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء
فحفرو ا القبور على ضوئه، وصلوا على الجثث، ودفنوها..
اتفقت الأقوال
فى مدفن "جسد" الحسين عليه السلام، وتعددت فى موطن "الرأس"
الشريف فيما بين "المدينة"، و"كربلاء"، و"الرقة"،
و"دمشق"، و"عسقلان"، و"القاهرة"، وهى تدخل فى بلاد
الحجاز، والعراق، والشام، وبيت المقدس، والديار المصرية، فان لم تكن هى الأماكن
التى دفن فيها رأس الحسين، فهى الأماكن التى تحيا بها ذكراه لامراء..
ولم تنقض
سنوات أربع على يوم كربلاء حتى قضى يزيد نحبه، فسلط الله على قاتلي الحسين كفؤا
لهم فى النقمة، والنكال، وهو "المختار بن أبى عبيد الثقفي" داعية
التوابين من طلاب ثأر الحسين، فأهاب بأهل الكوفة أن يكفروا عن تقصيرهم فى نصرته،
وبالغ فى النقمة فقتل، وأحرق، وفرق، وهدم الدور، وتعقب المحاربين، فقتل عبيد الله،
وأحرقه، وقتل شمر بن ذى الجوشن، وألقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه
المثلات، وألوف من جندهم، وأتباعهم مغرقين فى النهر، أو مطاردين..
خطأ الشهداء:
ان القول
بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، والتماس العذر له معناه القاء الذنب
عليها، وليس بخاف على أحد كيف ينسى الحياء، وتبتذل القرائح أحيانا فى تنزيه
السلطان القائم، وتأثيم السلطان الذاهب، فليس الحكم على صواب الحسين، أو على خطئه
اذن بالامر الذى يرجع فيه الى أولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة
القائمة، ويغنمون من عطائها، ولا الصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفا غير ذلك السيف،
ويغنمون من عطاء غير ذلك العطاء.. فما هى
البواعث النفسية التى قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة، بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟..
هى بواعث
تدعوه كلها أن يفعل، فان بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة، ولا البيعة التى يكتب
لها الدوام فى تقدير صحيح.. فهى بيعة نشأت فى مهد الدس، والتمليق، ولم يجسر معاوية
عليها حتى شجعه عليها من له مصلحة ملحة فى ذلك التشجيع..
كان "المغيرة
بن شعبة" واليا لمعاوية على الكوفة, ثم هم بعزله، واسناد ولايته الى "سعيد
بن العاص" جريا على عادته فى إضعاف الولاة قبل تمكنهم, وضرب فريق منهم بفريق
حتى يعينه بعضهم على بعض، ولا يتفقوا عليه, فلما أحس المغيره نية معاوية قدم الشام،
وأدخل امر البيعة على يزيد, ثم على معاوية ليضمن بقاءه فى الولاية، وقد كان له ما
أراد..
ولاقى معاوية
أول ما لاقى من الامتعاض لهذه البيعة فى بيته من امرأته "فاختة بنت قرطة بن
حبيب بن عبد شمس" التى كانت تريدها لابنها "عبد الله", ومن أقرب
أقربائه "مروان بن الحكم" واليه على المدينة؛ الذى أبى أن يأخذ له العهد
على أهل المدينة؛ فعزله وولى سعيد بن العاص مكانه, وكذلك "سعيد بن عثمان بن
عفان" الذى ولاه "خراسان" ليسكت عنه..
وظهر من
اللحظات الأولى أن المغيرة بن شعبة كان سمسارا يصافق على مالا يملك, فقد ضمن
"الكوفة"، و"البصرة" ومنع الخلاف فى غيرهما، فاذا الكوفة أول
من كره بيعة يزيد, واذا البصرة تتلكأ فى الجواب، وواليها يرجىء الأمر، ويوصى بالتمهل
فيه؛ فلا يقدم عليه معاوية فى حياته، واذا أطراف الدولة من ناحية "همذان"
تثور, واذا "بالحجاز" يستعصى على بنى أمية سنوات، واذا "باليمن"
ليس فيها نصير للأمويين، ولو وجدت خارجا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها مثل ثورة
الحجاز..
كان يزيد كما
علمنا رجلا هازلا فى أحوج الدول الى الجد، ولايرجى له صلاح، ولا يرجى منه اصلاح،
وكان اختياره لولاية العهد مساومة مكشوفة قبض كل مساهم فيها ثمن رضاه، ومعونته
جهرة، وعلانية من "المال"، أو "الولاية"، أو "المصانعة"،
ولو قبضوا مثل هذا الثمن ليبايعوا واليا للعهد شرا من يزيد، ولما أهمهم أن يبايعوه،
وان تعطلت حدود الدين، وتقوضت معالم الاخلاق..
وأعجب شي أن
يطلب الى الحسين بن على أن يبايع مثل هذا الرجل، ويزكيه أمام المسلمين، ويشهد له
عندهم؛ وهو – الحسين - نعم الخليفة المأمول؛ صاحب الحق فى الخلافة، وصاحب القدرة
عليها، ولامناص له من خصلتين: هذه، او الخروج، لأنهم لن يتركوه بمعزل عن الأمر؛ لا
له، ولا عليه..
ان بعض
المؤرخين من المستشرقين، وضعاف الفهم من الشرقيين ينسون هذه الحقيقة، ولا يولونها نصيبها
من الرجحان فى كف الميزان، وكان خليقا بهؤلاء أن يذكروا أن مسألة العقيدة الدينية
فى نفس الحسين لم تكن مسألة مزاج، أو مساومة، وأنه كان رجلا يؤمن أقوى الايمان بأحكام
الاسلام، ويعتقد أشد الاعتقاد أن تعطيل حدود الدين هو أكبر بلاء يحيق بأهله،
وبالأمة العربية قاطبة فى حاضرها، ومصيرها لأنه مسلم، ولأنه سبط محمد صلى الله
عليه وسلم, فمن كان اسلامه هداية نفس.. فالاسلام عند الحسين هداية نفس، وشرف بيت..
وقد لبث بنو
أمية بعد مصرعه ستين سنة يسبونه، ويسبون أباه على المنابر، ولم يجسر أحد منهم قط
على المساس بورعه، وتقواه، ورعايته لأحكام الدين فى أصغر صغيرة يباشرها المرء سرا،
أو علانية؛ فكيف يواجه مثل هذا الرجل خطرا على الدين فى رأس الدولة، وعرش الخلافة
مواجهة الهوادة، والمشايعة، والتأمين؟!.. وكيف يسلم أن يرشح للامامة من لاشفاعة له،
ولا كفاية فيه الا أنه ابن أبيه؟!..
لقد كان أبوه
معاوية على كفاية، ووقار، وحنكة، ودراية بشئون الملك، والرئاسة، وكان له مع هذا
نصحاء، ومشيرون اولو براعة، وأحلام تكبح من السلطان ما جمع، وتقيم ما انحرف، وتملى
له فيما عجز عنه، وهذا ابنه القائم فى مكانه لا كفاءة، ولا وقار، ولا نصحاء، ولا
مشيرون الا من كان عونا على شر، وموافقا على ضلالة.. ولا تنس بعد هذا كله أن ملك
يزيد كان يقرر دعائمه فى أذهان الناس بالغض من الحسين فى سمعة أبيه، وكرامة شيعته،
ومريديه.. فكانوا يسبون عليا على المنابر،
وينعتونه بالكذب، والمروق، والعصيان، وكانوا ينحرون أنصاره حيث كانوا، فيقهرونهم
على سبه، والنيل منه بمشهد من الناس؛ والا أصابهم العنت، والعذاب، وشهروا بهم فى
الأسواق بالصلب، والهوان..
هذه هى
البواعث النفسية التى كانت تجيش فى صدر الحسين يوم دعاه أولياء بنى أمية الى
مبايعة يزيد، والنزول عن كل حق له، ولأبنائه، ولأسرته فى امامة المسلمين كائنا من
كان القائم بالأمر، وبالغا ما بلغ من قلة الصلاح، وبطلان الحجة..
تبعة يزيد:
وقد برأ دعاة
الدولة الاموية يزيد من تبعة ما جرى، وادعى بعضهم أنه ندم على ما حدث، ولكن الثابت
الذى لا جدال فيه أن يزيدا لم يعاقب أحدا من ولاته كبرا على شىء مما اقترفوه فى
فاجعه كربلاء، وأن سياسته فى دولته بعد ذلك كانت هى سياسة أولئك الولاة على وتيرة واحدة
مما حدث فى كربلاء فاستباحة المدينة – دار النبى صلى الله عليه وسلم – وتحكيم "مسلم
بن عقبة" فى رجالها، ونسائها ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره، وقلبه،
أو سياسة رجل تجرى هذه الحوادث على نقيض تدبيره، وشعوره.. ومازال يزيد وأخلافه يأمرون الناس بلعن "على"،
و"الحسين"، وآلهما على المنابر فى أرجاء الدولة الاسلامية، ويستفتون من
يفتيهم باهدار دمهم، وصواب عقابهم بما أصابهم، ومن تجب لعنته على المنابر بعد موته
بسنين؛ فقتله جائز، أو واجب فى رأى لعينه.. ومن أفرط فى سوء الظن رجح عنده أن عبيد الله كان
على اذن مستور بكل ما صنع، ويملى لهم فى
هذا الظن أن استئصال ذرية الحسين من الذكور خطة تهم يزيد لوراثة الملك فى بيته،
وعقبه..
ثورة المدينة:
لج الولاة
الامويون بالرغبة فى تلفيق المظاهرات الحجازية، وجعلوا همهم كله أن يكرهوا القوم
على نسيان خطب الحسين، واصطناع الولاء المغتصب ليزيد.. فحملوا الى دمشق وفدا من أشراف المدينة لم
يلبثوا أن عادوا اليها منكرين لحكم يزيد، مجمعين على خلع بيعته، وراحوا يقولون
لأهل المدينة:
-"انا قدمنا من عند رجل ليس له دين.. يشرب الخمر, ويضرب
بالطنابير, ويعزف عنده القيان, ويلاعب الكلاب, ويسمر عنده الخراب"..
والتهبت نار
الثورة بالألم المكظوم، والدعوة الموصولة؛ فأخرج المدينيون والى يزيد، وجميع من
بالمدينة من الأمويين, ومواليهم، وأعلنوا خلعهم للبيعة, وكرر يزيد مأساة كربلاء
لأنه سلط على اهلها رجلا لا يقل فى لؤمه، وغله، وسوء دخلته, وولعه بالشر، والتعذيب,
وعبثه بالتقتيل، والتمثيل عن عبيد الله بن زياد, وهو "مسلم بن عقبة المرى"
فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام ان لم
يبادروا الى طاعته، ويروى ابن قتيبة أن عدد من قتل من الأنصار، والمهاجرين،
والوجوه ألف وسبعمائة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف.. سوى النساء، والصبيان.. ولحقت
الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية فى مدى سنوات معدودات؛ فصمد الحجاز فى
ثورته، أو فى تنكره لبنى أمية الى أيام "عبد الملك بن مروان" الذى دفع "الحجاج"
عامله فنصب المنجنيق على جبال مكة، ورمى الكعبة بالحجارة، والنيران فهدمها..
ومازالت
الجرائر تتلاحق حتى تقوض من وطأتها ملك بنى أمية.. فلم تعمر الدولة عمر رجل واحد مديد الأجل.. فلم يتم لها بعد مصرع الحسين نيف وستون سنة،
فخرج لهم السفاح الأكبر، وأعوانه من بنى عباس؛ فعموا بنقمتهم الأحياء، والموتى،
وهدموا الدور، ونبشوا القبور..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق