عن كتاب الأستاذ عباس محمود العقاد "إبراهيم أبو الأنبياء"..
طبعة نهضة مصر..
- إن دعوة الخليل قد اقترنت بالتوحيد،
واقترنت بالعبادة إلى ما فوق الطبيعة، والجثمان..
- إن حقائق الكون الكبرى لن تنكشف لعقل
ينظر إلى العقل؛ كأنه أشتات مفرقة بين الأرباب، ومن هنا صدرت كفكرة عظية عن الكون
من عقل فيلسوف مؤمن بالوحدانية، وان لم
تبلغه دعوة الأنبياء..
- فالتوحيد لم يكن مجهولا قبل عصر
إبراهيم ، وكذلك عبادة
"الحقائق" فوق الطبيعة، وفوق
مطالب الأبدان، كان المصريون الأقدمون يؤمنون بالإله الواحد، وكان من معتقداتهم إن
للروح في العالم الآخر ميزان يقدر لها الحسنات، والسيئات، ولكنها لم تكن دعوة
نبوة، ورسالة، ولعلها جاءت في زمن لم تتهيأ فيه النفوس للعلم بالوحدانية، ونبذ
الشرك، وتعدد الأرباب..
ثم يعود فيقول:
-"وكانت في جملتها دعوة كهان
يسترون ما يعلمون، ولا يبوحون للناس بأسرار الديانة الابمقدار"..
-"المشنا": أهم المرجع
الإسرائيلية بعد "التوراة"..
- ولأن "المقرأ": ما يحفظ
بالقراءة في الكتب؛ وهو نصوص التوراة المعتمدة،
"فالمشنا": ما يحفظ بالذكر، والاستظهار، ومنه
"التلمود" على نشأته الأولى..
- وأصل مادة الكلمة من
"شنا".. أى "كرر"، وهى تقابل في العربية مادة "ثنى"
بمعنى أعاد ثانية، وترجع مأثورات "المشنا" إلي أيام النفي في بابل، حيث
كانت عشائر من اليهود منفية عن فلسطين..
- وكان الغرض من "المشنا"
تفسير التوراة، والتعليق عليها، وقد وضعت المشنا في القرن الثاني للميلاد، ومعظمها
محفوظ بالعبرية العامية، واشتملت عند جمعها على ستة أقسام، والأقسام ثلاثة وستين
فصلا، واشتملت الفصول على نبذ تبلغ خمسمائة وثلاثا وعشرين، أضيف إليها نبذة بعد
ذلك، والأقسام هي:
1- قسم الزرع: خاص بالمزروعات..
2- قسم الموعد: المواسم، والأعياد..
3- قسم النساء: الزواج، والطلاق..
4- العروض والتعويضات: المعاملات..
5- المقدسات: شعائر العبادة..
6- الطهارة: التطهير لأداء الفرائض..
- وزيدت كتب عن المشنا في العصور
الحديثة، وضعها كهان أوروبا في القرن الثاني عشر للميلاد
تسمى"التصافوت".. ومعناها الاضافات ، وهناك مأثورات، وأحكام خارج المشنا
تنقل بالرواية تسمى "البرايتا"، أو "البرانية"..
ومن تحميص المشنا القديمة اختيرت طائفة من الأحكام المتفق عليها تسمى "الجمارة"، أو
"التكملة"، ومن مرويات المشنا،
والجمارة تجتمع كتب التلمود، وهما "تلمود بابل"، و"تلمود
فلسطين"، ولا يحتوى التلمود على كل مافى المشنا، والجمارة..
- وتعرف بعض المأثورات الإسرائيلية
باسم "المدراش"، أو الدراسات، وهى تتضمن أقوال الفقهاء، وحواشيهم على
النصوص، وهى درجات عند اليهود؛ فمنهم من يعتبرها من قبيل القصص التعليمية،
والأمثال الوعظية للاعتبار، ولا يقصد بها التاريخ، أو الاعتقاد، ويظن بعض الشراح
الالمان أن من المدراش نبذ منقولة عن اللغة العربية، بل إن بعض العبارات ترجمة
حرفية من القرآن الكريم..
- تطورت دعوة إبراهيم كما تلقاها
اليهود في عصر الميلاد في ثلاث مسائل من كبريات المسائل الدينية؛ هي مسألة الحياة
بعد الموت، ومسألة الوعد الالهى للشعب المختار، وعلاقته بالقومية، أو الإنسانية،
ومسألة الشعائر، وعلاقتها بالروحانيات،
والجسديات؛ ففي عصر الميلاد كانت
طائفة كبيرة من اليهود، وهى طائفة "الصدوقيين" تنكر القيامة بعد الموت،
ولا ترى في الكتب الخمسة دليلا واضحا عليها، وكانت الطوائف الأخرى تؤمن بالثواب،
والعقاب على الجملة، ولكنها لا تتوسع في وصفها، ولا ترجع في هذا الوصف إلى سند
متفق عليه، وفى أذهانهم صورة غاضمة عن وجود الموت في هذا العالم، ولكن بعد ظهور
المسيحية ظهرت ملامح الثواب، والعقاب في العالم الأخر..
-"موجز التعليقات الحديثة على
الكتاب" من تأليف ثلاثين عالما من علماء اللاهوت في انجلترا ، وكلهم من
المطلعين على كشوف الآثار التي لها علاقة بتواريخ التوراة، والإنجيل؛ يقول الكتاب:
-"وكان الرعاة الهكسوس(هاك شاسو)
يحكمون مصر من الأسرة الثالثة عشرة إلى الأسرة السابعة عشرة، وفى هذه الفترة حدثت
هجرة الآباء العبريين إلى الديار المصرية"..
وهناك كتاب أخر أوسع شرحا طبع طبعته المنقحة سنة 1952 عنوانه "تعليقات
موجزة على الكتاب"، تأليف "جوزيف أنجوس Angus " من أكبر فقهاء
اللاهوت؛ يقول مؤلفه:
-"وكانت مصر عند هجرة إبراهيم، ثم
هجرة يعقوب ولاية خاضعة لحكم الرعاة المكروهين الذين تسلطوا على مصر أكثر من
خمسمائة سنة، ومن ثم كان الترحيب "بيعقوب"، و إقطاع قومهم أرضا في
البلاد ..
وفى تعليقات "هالى Halley " يضع "للحوادث المصرية" مقابلا من "حوادث التوراة"؛
فيضع عصر "إبراهيم" مقابلا للأسرة الثانية عشرة حوالي 3000 قبل الميلاد،
وعصر "يوسف" مقابلا للأسرة السادسة عشرة 1800 قبل الميلاد على سبيل
الاحتمال، وعصر "موسى" مقابلا للأسرتين الثانية عشرة، والتاسعة عشرة بين
سنتي 1500، 1200 ق. م...
في تقديرات هالى، ومدرسته نحو ألف ومائتي سنة
بين عصر إبراهيم، وعصر يوسف مع اعتماده أحيانا على نقوش الآثار خاصة كشوف بعثة
"البرايت و كيلي
Albright
and Kyle " سنة
1924..
ومن أصحاب التعليقات التوارتية المعروفين بالتحرج في التقدير "لوثر
كلارك
Clarke"؛ وهى من أكثر التعليقات حجما، وهى تضع عصر
"حمورابى" حوالي سنة 1900 ق.م.، وعصر "الآباء العبريين" في
كنعان بين سنتي 1900، 1700ق.م.، ونهاية عصر "الهكسوس" حوالي سنة 1550
ق.م...
يقول الأستاذ البرايت Albright وهو أحد أصحاب بعوث الكشف عن الآثار:
-"فنحن
نعلم اليوم أن مسألة الهكسوس لا بد أنها ترجع إلى الفترة بين سنتي 1720،
1550
ق.م.، وأن قيادة الهكسوس في يد "الساميين"، ولم تكن "حورية"،
أو "هندية آرية" كما كان بعض العملاء يقدرون إلى زمن قريب"..
وهناك مرجعان من مراجع الشواهد هما "أطلس وستمنستر التاريخي"،
و"موسوعة وستمنستر" المنقحة سنة 1944، وهما خاصان بجغرافية التوراة،
والعهد الجديد، وتاريخها، وقد توفر على تأليفهما من وجهات النظر المتعددة نخبة من
علماء هذه المباحث المشتغلين في الكتب الأثرية، والكتب العصرية بدرسها في الآثار،
والحفريات، وبالإطلاع على سجلاتها، ومدوناتها..
وجاء في الأطلس:
-"وان حفائر "توزى" في
ودى الفرات الشمالي اشتملت على وصف عادات اجتماعية تفسر عادات الإرث، والزواج،
وأصنام الأسرة( الطرافية) التي أشارت إليها كتب التوراة، وما بعدها من الكتب
القديمة، وهذا عدا الآثار التي معها أخبار الطوفان، وأخبار الخليقة مما لا نظير له
في مأثورات مصر، أو كنعان"..
ومن الطبيعي أن يعنى الأطلس با لمواقع الجغرافية في سياق التاريخ، وكذلك
عنى في سيرة إبراهيم بمواقع رحلاته إلى مصر في ذهابه، وعودته، ومنها أرض الجنوب
بين قادش، وشور، وتعرف الآن باسم وادى غزة، وهو واد كان له شان في تاريخ بنى
اسرئيل إلى ما بعد خروجهم من الديار المصرية..
أما الموسوعة هي تذكر أن تاريخ حمورابى وضع في عصور مختلفة بين سنة 2123
وسنة 1830 ق.م.؛ ثم عادت فقالت إن الكشوف
الحديثة ترجح وضعه بين سنتي 1792، 1750، أو 1749، وان شريعته المشهورة مقاربة
للشريعة الموسوية في سفر الخروج من التوراة، وان أسلوب المواد يتشابه في ابتداء
الجمل كما تتشابه العقوبات، ولاسيما
عقوبات القصاص، وبعيد أن تكون شريعة حمورابى أمام المشرع العبري عند تدوين أحكامه،
ولكن المحتمل أن الشريعتين ترجعان إلى أصل سامي قديم..
وترى الموسوعة – اعتمادا على تقدير الأسقف "يوثر" – أن مولد إبراهيم يوافق سنة 1996 ق.م.، وفى
رواية سفر التكوين أن" سدوم"، و"عمورية" دمرتا في حياة
إبراهيم: فيقدرها الأسقف يوثر بحوالي سنة 1898 ق.م...
ثم يعود العقاد ليسير سير الماديين فيقول عن ضيف إبراهيم الذي ذكر القرآن
أنهم ملائكة، وذكرهم سفر التكوين بأنهم يأكلون، ويشعبون من الطعام، وفى بعض النسخ
يفهم أن أحدهم كان الإله نفسه، ثم أصبح مفهوما أنه ملك يتكلم باسم الإله، ومعه
صاحباه من السماء؛ فيقول:
-"إن هذه النقلة ليست بالأمر
الهين في تاريخ بنى الإنسان؛ فهذا الانتقال بين العقل الذي يقصر عن إدراك مخلوق
سماوي يخالف الأجساد الحية في مطالبها المادية، وبين العقل الذي تهيأ للتمييز بين
الحياة الروحية، والحياة المادية هو الانتقال الذي يؤرخ به عصران في حياة بنى
الإنسان"..
ثم يتحدث في أمر الأحاديث الورادة عن الأنبياء خاصة إبراهيم عليه السلام
فيقول: -"فمن اليهود الذين أسلموا "كعب بن مانع" الحميرى الذي
اشتهر باسم "كعب الأحبار"، كان من علماء اليهود في اليمن، وأسلم في زمن
أبى بكر، وعاش في المدينة زمنا، ثم خرج إلى الشام بعد مقتل عمر، فأقام بحمص ومات
فيها، ومنهم "وهب بن منبه"، وهو أيضا من يهود اليمن، وكان من أبناء
الفرس الذين أرسلهم "كسرى" إلى اليمن، ثم أسلم، وتوفى في عهد الدولة
الأموية، وكلاهما كثيرا الرواية، والنقل عن الكتب الإسرائيلية، ويظن بهما أنهما
وضعا كثيرا مما روياه من أحاديث منسوبة الى انبى صلى الله عليه وسلم"..
وكان الفاروق "عمر"، والإمام "على" رضي الله عنهما
ينهيان كعب الأحبار عن الإفاضة في رواياته، و أساطيره، ولكن كعب الأحبار، وأمثاله
قد طاب لهم أن يتحدثوا بتلك الأساطير التي ينفردون بدعواها؛ فأفرطوا فيها، وجعلوا
يطرقون السامعين بجديد كلما نفد قديمهم المعروض، وأمنوا من السامعين إقبالا على
هذه البضاعة التي لا يزاحمهم فيها أحد من
المسلمين..
فإذا دخل عالم من العلماء اليهود في الاسلام أمن له المسلمون، وبالغوا في
العلم الذي سبقه اليهم أهل الكتاب، وكذلك فعل كثير من المفسرين، وبالغوا في
الطمأنينة إلى أولئك الرواة، وفاتهم أنهم إن سلموا من "سوء النية"؛ لم
يسلموا من "الجهل"، وضعف السند، وقلة التثبت، والتحميص..
ويقول العقاد عن تجاهل أبناء إسماعيل العرب في التوراة:
-"لقد سكتت مصادر اليهود عن حالة
العرب الدينية كل السكوت، وترجع هذه المصادر إلى القرن السابع ق.م.، وقد تعمدت هذه المصادر أن تخرج أبناء
اسماعيل من حقوق الوعد الذى تلقاه ابراهيم من الله، وقالت ان هذا الوعد انما هو حق
لأبناء ابراهيم من سلالة إسحاق"..
إن انتساب العرب إذن إلى إسماعيل قد كان تاريخا مقررا للسبيل إلى إنكاره
عند كتابة المصادر اليهودية التي حصرت النعمة الموعودة في أبناء إسحاق، ولو لم يكن
أنساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم تاريخا مقررا في ذلك العصر – عصر كتابة
المصادر اليهودية الأولى – لما كانت بهم
حاجة إلى التمييز بين أبناء إسماعيل اذ كان يكفى أن يقال إن النعمة الموعودة من
نصيب أبناء إبراهيم عامة ليخرج من هذا الوعد من لم يكن من اليهود الذين لا ينازعهم
أحد في الانتساب إلى إبراهيم..
ولا شىء غير خطر المنافسة في النسب، وخطر المنافسة في العقيدة الدينية
يلجىء الكهان إلى حصر النعمة الموعودة في أبناء إسحاق دون أبناء إبراهيم، وقد لوحظ
أن الكهان يحصرون النسب شيئا فشيئا كلما أحسوا خطر المنافسة على سلطانهم، وسلطان
هيكلهم؛ فقالوا:
-"إن الاسرائليين هم أبناء يعقوب
دون غيره، وإسرائيل هو لقب يعقوب"..
ثم انقسمت دولة اليهود إلى شمالية تسمى "مملكة إسرائيل"، ودولة
جنوبية تسمى "مملكة يهوذا"؛ فقال كهان الهيكل:
-"إن النعمة الموعودة محصورة في
أبناء داود".. وقبل ذلك بزمن طويل
كان "اللاويين" قبيلة موسى الكليم..
ولعل المنافسة في الحقيقة كانت بين الايمان "بيهوا"، والايمان
"بالايل"، أو "الإله"،فان العرب الأقدمين لم يذكروا
"يهوا" قط بين أربابهم، وإنما ذكروا "الايل"، و"الإله"،
و"الله تعالى"، وكان اليهود يعبدون الايل كما يعبده العرب، ومن ذلك
تسمية "إسماعيل"، و"إسرائيل"، و"بتوئيل"؛ فلما
تشابه النسب بالانتماء إلى إبراهيم، وتشابهت العبادة بالاتفاق على اسم الإله، جدت
الرغبة بالكهان في الاستئثار من جهة، والاستثناء من جهة أخرى؛ فحصروا النعمة
الموعودة في أبناء إسحاق، ثم في أبناء يعقوب، ثم في أبناء داود جريا على عادتهم
المطردة في أمثال هذه الأحوال..
إن المراجع الإسرائيلية قد سكتت عن بعض الأمور، ولم تستوعب أمورا أخرى في
سجلاتها المحفوظة، وهناك نقص في المصادر اليهودية حتى في أخبار البلاد المجاورة
لمملكة إسرائيل؛ فان المصادرالاسلامية أوفي بأخبار هذه البلاد من مصادر اليهود؛
فكتب اليهود لم تذكر قط "عاد"، و"ثمود"، وانفراد القرآن
الكريم بذكرها؛ مع ما جاء عنها في المأثورات العربية، ولولا أن عادا، وثمود قد
وردا في "جغرافية بطليموس" لزعم
المشككون أنها احدى الخرافات، ولكن اسم عاد oadita، واسم ثمود Thamudita قد وردا في جغرافية بطليموس؛ وليس
موقعهما كما وصفه الجغرافي الكبير بعيدا عن مملكة إسرائيل، فإذا كان
بطليموس قد سمع بهما فلا يعقل أن يكون أمرهما مجهولا عند كتاب العهد القديم، وإنما
المعقول أن السكوت عن كل رسالة في أبناء إسماعيل هو المقصود..
بلاد الشعوب التي تعرف بالسامية – أو على الأصح بالعربية – هي شبه جزيرة
العرب، ومنها هاجرت بعض القبائل إلى بلاد
الهلال الخصيب بين وادي الفرات، والبحر الأبيض المتوسط، وهاجرت قبائل أخرى إلى
الحبشة في افريقية، والرأى الغالب أن الهجرة تتبع طريقها من جنوب الجزيرة إلى
شرقها في محاذاة البحر الهندي؛ فالخليج الفارسي؛ فنهر الفرات إلى أقصاه شمالا،
ويرتفع بعض المؤرخين بأول فوج من أفواج الهجرة العربية إلى القرن الثلاثين ق.م. ثم
تتابعت الأفواج..
فالآشوريين، والأكاديين، والبابليين، والكلدانيين هم أفواج متلاحقة على
فترات متباعدة؛ تترواح الفترات بينها من ستمائة إلى ألف سنة، لأن الأقاليم
الشمالية في وادي النهرين كانت أخصب الأقاليم، وأصلحها للزراعة، والرعي، وكان معظم
الرحلة للتجارة مع القوافل التي تذهب، وتعود، ولا يبقى منها في الشمال إلا العدد
القليل، وكان سلوك القوافل بين اليمن، والعقبة على طريق البر أيسر من سلوكها بحرا
مع قلة السفن، واعتماد العرب في أسفارهم على الجمل الذي سموه بحق "سفينة
الصحراء"..
وربما حدث مرات أن يوغل العرب الشماليون جنوبا، كلما ضاقت بهم مساكنهم أمام
المغيرين عليهم، أو حاقت بهم نكبة من الزلازل، والصواعق؛ وهى كثيرة في تلك البقاع،
كما ظهر من أثارها الباقية إلى هذه الأيام، ولذا يعتقد المؤرخون أن اليمن هي مصدر
العربية الأول، ويقولون ان العرب العاربة هم أهل اليمن، ثم يليهم العرب المستعربون،
وهذا ان صح من الانتساب فلا يصح من حيث الارتقاء باللغة العربية، فاللغة العربية
الأولى في اليمن لم تبلغ من الصقل، والفصاحة، وانتظام القواعد ما بلغته لغة
الحجاز، وعلة ذلك أن الدول الكبرى في تلك
العهود لم تكن موحدة الحكومات؛ بل كانت منقسمة موزعة يتولاها في الوقت الواحد
ثلاثة أمراء، أو أربعة، أو أكثر من ذلك(تعليق: هذا يؤيد ما جاء في القرآن من أن
"يوسف" عليه السلام رفع أبويه على العرش؛ وهو عرش خاص به غير عرش الملك،
وكما تحدث عن "بنى اسرائيل المعاصرين لموسى عليه السلام"عندما ورثوا ملك
فرعون في مكان ما في سيناء).. ففي مصر كان
المظنون أن ترتيب الأسر متعاقب، ثم ظهر من النقوش المتوافقة في الزمن أن الأسر
"الثانية عشرة"، و"الثالثة عشرة"، و"الرابعة عشرة"؛
حكمت في عصر واحد بين أقاليم "الوجه البحري"،
و"الصعيد"(تعليق: كان الملوك "الهكسوس" في الوجه البحري،
وعاصمتهم "أواريس"، وكانت "أسرة طيبة" في الصعيد)؛ وأن من
هؤلاء الهكسوس من كان يرسل الهدايا، والإتاوات إلى ملوك الصعيد..
كان هجوم "الهكسوس" على مصر معاصرا لهجوم قبائل البدو من
"عيلام"، و"عمور" على بابل، وكانت الأرض التي في طريق مصر
موزعة بين العمالقة "الحيثيين"،
و"اليبوسيين"، و"العموريين"، وليس بينهم ذكر
"للعبرانيين" الذين يسمون أنفسهم "بأبناء إسرائيل"، ولم يذكر
لهم اسم في أثر من الآثار التاريخية قبل سنة 1220 ق.م. الذي يروى فيه الفرعون
"مرنبتاح" خبر حملته التأديبية على "عسقلان"،
و"جزير"، و"يوانام"، و"إسرائيل"؛ فيقول انه محا
إسرائيل فلم تبق منها باقية، ويؤيد خبره هذا أن النصب الذي أقيم بعد ذلك مسجلا
لانتصار "رمسيس الثالث" على "العموريين"،
و"الفلسطينيين"، و"الحيثيين" سنة 1190ق.م. لم يرد فيه ذكر
لإسرائيل..
وعصر إبراهيم قبل هذه الفترة على التحقيق فمن القرن الثاني عشر، الى القرن
الثامن عشر ق.م. لم يكن لإبراهيم، وذريته مقام في غير الجنوب عند
"جيرار"، أو وراءها جنوبا، ولم يكن لإبراهيم مقام في
"حبرون"..
كان العبريون الى أيام موسى يشترون المرعى، والمورد فيها بالفضة، ولم
يستطيعوا أن يدخلوا "فلسطين" الا بعد ضعف "العموريين"،
و"الحيثيين"، و"الهكسوس"( تعليق: كما روى القران أن فيها
"قوما جبارين")، ومن حقائق التاريخ المطردة أن "الملك هو بلاء
القبائل الرحل"، فلما ملك الحيثيون، والهكسوس ضاعوا، واندحروا، ولما هجم
العموريون على بابل فملكوها ضاعوا، واندحروا في "بابل"، وفى "بيت
المقدس"، ولما دخل العبريون أنفسهم بيت المقدس، وملكوا فيها ضاعوا، واندحروا،
وحاق بهم ماحاق بالقبائل الاولى(تعليق: وسيحدث هذا لإسرائيل التي تجمعت من كل مكان
في أرض الميعاد المزعومة كما أنبأ القرآن، وسوف يحدث هذا لرعاع أمريكا أيضا)،
فالملك هو نهاية كل قبيلة من تلك القبائل، وقد ظلت كلها قبائل نامية الي أن ملكت؛
فانتهت بذلك الى دورها الأخير..
ربما كان من المفاجآت أن إبراهيم عليه السلام كان عربيا، وأنه يتكلم اللغة
العربية؛ وهى ليست بالضرورة اللغة العربية التي نكتبها اليوم، أو نقرأها في شعر
الجاهليين، ومن عاصرهم من العرب الأقدمين، وإنما اللغة العربية المقصودة هي لغة
الأقوام التي كانت تعيش في شبه الجزيرة العربية، وتهاجر منها، واليها في تلك
الحقبة، وقد كانت لغة واحدة من اليمن الى مشارف العراق، والشام، وتخوم فلسطين،
وسيناء..
وقد عرفت تلك اللغة حينا باسم "اللغة السريانية" غلطا من اليونان
في التسمية، لأنهم أطلقوا اسم "آشورية"، أو "أسورية" على
الشام الشمالية، فشاعت تسمية العربية باسم "السوريانية"،
و"السريانية" من المكان الذي أقامت فيه بعض قبائل العرب الوافدة من شبه
الجزيرة منذ أقدم العصور قبل عصر إبراهيم بزمن طويل، واشتملت اللغة السريانية في
بعض الأزمنة على عدة لغات لا تختلف فيما بينها الا كاختلاف لهجات القبائل العربية
قبل الاسلام، ومن هذه اللغات لغة "آرام، و"كنعان"،
و"أدوم"، و"موآب"، و"مديان"، وما جاورها في
الأقاليم الممتدة بين العراق، وسيناء، ولم يكن الخليل إبراهيم عبريا، ويفهم الناس
أن "العبرية"، و"اليهودية" كلمتان بمعنى واحد، فالعبرية في
نحو القرن العشرين قبل الميلاد كانت كلمة عامة تطلق على طائفة كبيرة من القبائل
الرحل فى صحراء الشام، وكان من أبناء هذه القبائل من يعمل كالجنود المرتزقة هنا،
وهناك، وبهذا المعنى وردت كلمة "العبري"، و"الابرى"،
و"الهبرى"، ولم يكن هناك وجود لليهود في ذلك الوقت..
وقد لوحظ التقارب بين اللغات، أو اللهجات العربية فيما هو أقدم من ذلك
كثيرا، بحيث لا يحسب تاريخه بأقل من ألفى سنة ق.م.، فان أداة التعريف، وضمير
المتكلم، والغائب، وكلمات النفي، والنهى، وتصريف الأفعال مشتركة في اللغة العربية،
واللغة الآشورية التي تنسب إليها السريانية كما تقدم..
لم يكن تاريخ إبراهيم عليه السلام مستمدا من المصادر اليهودية كما زعم بعض
المتسرعين من رواة الأخبار الدينية غير الإسلامية ، وأن هذا بينة من بينات شتى على
أن دعوة إبراهيم لم تصل الى الحجاز من المصادر اليهودية، وهى أن تسمية
"آزر" كان يمكن أن تكون "تارحا"، أو "تيرحا"، أو
"تيرة"، أو ما شابه هذه
التصحيفات.. والبينة الكبرى التي تأتى من مباحث اللغة هي التقارب الشديد
بين لغة "الحجاز"، ولغة "النبط"، أو "النباتيين"
الذين ينتمون الى من "نبات" من أبناء "إسماعيل"..
ومما يدعو الى احترام روايات النسابين في هذا الباب أنهم عرفوا الحقيقة
التي كشفها علماء الأحافير في الزمن الأخير؛ فقال ابن عباس:
-"معاشر قريش من النبط"..
وربما اختلفوا في مسألة الكتابة لأنها طارئة لم يتعلمها منهم غير
قليل(تعليق:لم يكن العرب فى الجزيرة أهل كتابة، وتدوين، ولم يمارسوا هذا إلا عند
هجرتهم، واستيطانهم في الحواضر الشمالية المتاخمة للجزيرة العربية، فربما كتبوا،
ولكن المكان لم يساعد التاريخ في امداده بالوثائق الدالة على ذلك؛ فالمكان نفسه
متحرك، وليس له القدرة على حفظ مواقعه فى هذا التيه من الرمال المتحركة، والقبائل
الهائمة بدورها أيضا سعيا وراء الماء، وأسباب الحياة)..
أكثر غوامض التاريخ يخلقها المؤرخون، لأنهم ينظرون الى التاريخ كأنه حسبة
أرقام لاحصاء السنين، والأيام، أو كأنه أطلس مواقع، ومعالم، أو كأنه سجل حوادث،
وأنباء؛ فلو واجهوه على قاعدة واحدة؛ وهى أنه وصف نفوس انسانية، وقد غمض على
المؤرخين شأن كثير من أحوال الرسالات النبوية، ولم يعرف التاريخ رسالة نبوة فى
"الحضارة" دون غيرها، أو فى "الصحراء" المنعزلة دون غيرها،
وانما عرفت هذه الرسالات على الدوام فى "مدينة حولها صحراء"، أو فى
"صحراء على مقربة من مدينة"، ولهذا كانت "مدن القوافل"، وما
فى حكمها أحق الأماكن بالدراسة من جانبها هذا الذى يرشحها لقيام الدعوات الدينية..
-
لم اختص الله
الأمم السامية بالرسالات النبوية؟!..
-
لمَ لمْ تظهر
فى الهند، أو الصين، أو فى القارة الاوربية؟!..
- أم كانت هذه الرسالات هى الدور الذى تهيأت له أمة واحدة
فى وسط العالم؟.. "أمة وسطا" كما نعتها القران الكريم..
أسئلة تظل على غموضها
حتى ننظر فى الأحوال النفسية التى يكون عليها الانسان بين "الحضارة"، و"البداوة"،
ولاتهيؤه لها الحضارة على انفراد، ولا البداوة على انفراد.. بل لابد من التقاء الشعوريين، وامتزاج المجتمعين،
ولم يحدث قط أنهما التقيا، وامتزجا على هذا النحو فى غير البلاد التى قامت عليها
الحضارات الأولى، وظلت زمنا طويلا جامعة بين الصحراء، والمدينة، والأقطار
المتحضرة؛ كأنها خلقت للنهوض بهذه الأمانة، ونشرها فى جميع أنحاء العالم..
ودولة الحضارة التى تتلاحق فيها مظاهر العمران تعطينا المشترعين، والكهان،
ولا تعطينا الأنبياء المرسلين، أو الرسل، وتؤول فيها مسألة الدين الى سلطان
الكهان؛ وهم أعداء الأنبياء، ويحدث أحيانا أن يتصدى الكاهن للنبى حماية لعرش
الملك..
وليس فى الصحراء التى انقطع ما بينها، وبين العمران من شريعة غير شريعة
العدوان، ولا عمل للقبائل فيها غير الاغارة، والاستعداد لدفع الغارات من
الآخريين..
ففى "البتراء" محاريب الحجارة
السود التى تساقطت من السماء، وفيها هيكل البنت، أو الربة المصرية
"ايزيس"..
-
وما ايزيس؟!..
-
أتكون هى
العزى التى عبدت زمنا فى الجنوب؟..
عثر الباحثون فى آثار بابل، وآشور على كلمات كثيرة فى الألواح السماوية من
مصطلحات علم الفلك القديم، ومنها أسماء المنازل، والبروج، ومجاميع الكواكب،
والنجوم، هذه الطوالع درست باستفاضة، وتدقيق، وكتب خلاصة درسه الأستاذ "اريك
بروز" فى كتاب "طوالع يعقوب وبلعام" فانتهى منها الى وحدة بين كل
اسم من أسماء الأسباط، وبين برج من أبراج السماء(تعليق: يتحدث القرآن عن رؤيا
يوسف، وكيف أنه رأى أحد عشر كوكبا – اخوته – ساجدين له مع الشمس، والقمر؛ وهما
أباه، وأمه)..
ومن مفاخر "يوسفوس" المؤرخ دعواه أن ابراهيم الذى علم أحبار المصريين
"أسرار الكواكب"، و"حساب الفلك"، وقد جاء فى القرآن أن
ابراهيم كان ينظرفى "النجوم"، وأن يوسف كان "يعبر الرؤيا"،
وأن موسى كان يطلع على "سحر الكهان"..
ان "النبوة" التى تنفصل من الكهانة خاصة لم تتكرر فى غير
"السلالة العربية"، وقد يأتى النبى ليصدم العبادات التى يقوم الكهان على
شعائرها، ومراسمها؛ فالكهانة نظام المجتمع، وتقاليد الدولة، و"الاله"
أشبه برئيس الديوان، و"الكاهن" أشبه بمندوبه، وأمين سره..
-
كلمة
"النبى" عربية لفظا، ومعنى..
-
عربية
"لفظا".. لأن مادة النبأ، والنبوءة أصيلة فى اللغة..
وعربية "معنى".. لأن المعنى الذى تؤديه لا تجمعه كلمة واحدة فى
اللغات الأخرى.. فهى تجمع معانى
"الكشف"، و"الوحى"، و"الانباء بالغيب"،
و"الانذار"، و"التبشير"؛ وهى معان متفرقة تؤديها اللغات
الحديثة بكلمات متعددة؛ "فالكشف" فى الانجليزية Revelation، و"الوحي" كلمة inspiration،
و"استطلاع الغيب" كلمة divination ، أو oracle،
ولا تجتمع كلها فى معنى النبوة كما تجتمع الكلمة باللغة العربية..
وقد أشارت التوراة الى ثلاثة أنبياء من العرب غير "ملكى صادق"،
وهؤلاء الأنبياء الثلاثة هم "يثرون"، و"بلعام"،
و"أيوب"، ومنهم من يقال انه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنا وهو أيوب، وقد
ذكر المفسر "هالس Hales" أن تاريخ أيوب قريبا من سنة 2300ق.م.؛ فهو من أقدم الأنبياء فى الجزيرة العربية،
وكلهم متفقون على أنه من أبنائها، وان اختلفوا فى مكان بين شمال نجد، وشرق
العقبة..
أما عقيدة أيوب كما تفهم من سفره أنه ينكر عبادة الشمس، والقمر، ويصف الله
القدير بأنه أعلى السماوات، وأعمق من الهاوية، وأعرض من البحر، وسوى بين الحر،
والعبد، ويحمد من الغنى يكون أبا للفقراء، وأجل من ذلك شأنا فى تاريخ العقيدة
الدينية أنه أول من نص على "البعث" فى كتب العهد القديم، وكانت تربيته
الالهية التى انتهى منها الى هذه العقيدة تربية طويلة، صبر فيها على نكبات المرض،
والبوار، وخيانة الأقربين، والأبناء، وتدرج من القول بالزاول، والعدم، الى القول
برؤية الله بعد فناء الجسد، وعلى الجملة يبدو "سفر أيوب" غريبا فى وضعه،
وموضوعه بين اسفار العهد القديم؛ فلم يكن من عادة اليهود أن يجمعوا فى التوراة
كتبا لغير أنبيائهم المتحدثين عن ميثاقهم، وميعادهم، ولكنهم وجدوه فى بقاع فلسطين
الجنوبية محفوظا يتذاكره الرواة؛ فحسبه بعضهم من كلام موسى، وبعضهم من كلام
سليمان..
وجدت "قصة الخليفة" منقوشة "بالخط المسمارى" على
الالواح التى عثر عليها عند مدينة "الموصل"، وهى بالمتحف البريطانى
بلندن، وهى تشبه قصة الخلق فى القرآن فى ستة أيام، ولكنها محرفة كالاساطير، وتؤلف
قصة الطوفان البابلية اثنى عشر فصلا على حسب البروج، وهى أيضا بالمتحف البريطانى ،
وقد علم المنقبون أن هذه القصة منسوخة من مصدر قديم عنها يرجع الى أوائل الألف
الثالثة ق.م.، وعلم المنقبون أن قصة الطوفان عامة لا تنفرد بها الآثار البابلية،
ولايقل تاريخه فى القدم عن تاريخها..
ومن كلامهم عن الخليقة، والطوفان نعلم أنهم يؤمنون باله عظيم، خلق الآلهة
الصغار، وقدر لها منازلها فى السماء، وهى الأجرام العلوية، وأشهرها القمر، وقد عمت
عبادته بلاد الساميين(أو العرب الأوائل) من وادى النهرين الى سيناء، ويسمونه
"سين"، ومنها أخذ اسم "سيناء"، ولعله فى الأصل من مادة السنا،
والسناء، وكان معه اله آخر اسمه "مراوخ"، أو "المريخ" فى وادى
النهرين، وهو "اله الحرب" لاحمرار لونه كلون الدماء..
وكانوا يرفعون الصروح لرصد الكواكب، واستطلاع الطريق، ويسمونها
"زيجورات" منذ أقدم العصور على عهد "السومريين"، أو
"الشمريين"(تعليق: ربما أخذ منهم "فرعون" هذا البناء لاستطلاع
السماء كما ذكر القرآن)، وأشهر الكواكب المعبودة بعد القمر كوكب
"الزهرة"(عشتار)، وهى ربة "الحب" لتألقها، وزهوها، وتقلب
أحوالها، كما عبدوا "الشمس" قديما باسم(شماس)؛ وان لم تكن عامة بينهم
كعبادة القمر، وكان "الخليل" يبنى المحاريب على الأماكن العالية الى
جوار الشجر، والماء..
وفى متحف جامعة اكسفورد بانجلترا أسماء الأسر التى حكمت بابل بعد الطوفان،
الى أيام "سراجون"، وكانت مدة حكمهم جميعا أربعة وعشرين ألف سنة
وخمسمائة وعشر سنوات، تولى الملك فى الاسرة الاولى منهم 23 ملكا، وكما تتحدث الألواح أنهم قد هبطوا من
السماء، الى الأرض لحكمها بعد أن طهرها الله، وعاقبها على فسادها، ولذا ظهر من
فرض عبادته على جميع البلاد توحيد ا
للدولة(تعليق: كما فعل قدماء المصريين فى وادى النيل)..
وتدل الأحافير على قدم الضحايا البشرية فى العبادات التى سبقت عهد الساميين
بوادى النهرين، وبقاع الهلال الخصيب،
وأنها بقيت الى ما بعد وفود الشعوب السامية الى تلك البقاع، وتدل الأحافير
بمدينة "أور" أيضا على قدم عادة "عبادة الملوك"، اذ كان
الملوك يدفنون، ومعهم حاشيتهم، ووزرائهم حيث يتجرعون السم باختيارهم للانتقال مع
الملوك الأرباب الى حالة فى السماء كحالتهم فى الحياة الأرضية..
سأل "هيرودوت" الفينيقيين، والسوريين عن عادة
"الختان"؛ فقالوا انهم أخذوها من المصريين؛ اذ كان يتحرون به النظافة،
والطهارة، ويعتقد أنه اختصار لعادة الضحية البشرية، وقد بدأ الختان بالرجال، ثم
وجب بعد ذلك على النساء كعلامة تسليم لاله
القبيلة، وهو ما فعله الاسرائيليون أيضا، وليس صحيحا أنه علامة لقبيلتهم..
لايخلو دين أمة قديمة من الايمان بعالم آخر غير عالم الأحياء؛ حيث شاع
الايمان بالأرواح، والأطياف، واعتقدوا أن الانسان يبقى بعد موته لأنه يأتيهم فى
الأحلام، ومن هنا جاءت عبادة الأسلاف(تعليق: تحدث القرآن فى أكثر من موضع عن قدسية
الآباء من الموتى لدى العرب)، وكان الايمان بالعالم الآخر نوعان؛ الهاوية تحت الأرض بعيدا عن النور، ولكنه جزء
من هذا العالم المشهود(الديانة البابلية)، ونوع
ينظر الى العالم الآخر كعالم للحساب، والجزاء، والتفرقة بين الأبرار،
وغيرهم؛ فهو عالم الخلود، والحياة الفانية
فى الدنيا(الديانة المصرية)، وهناك نوع بين الاثنين يجمع بين الهاوية، والخلود؛
فكل الموتى يذهبون الى الهاوية، وينجو فقط من يدينون بالاله الحق آخر الزمان،
فيعودن للحياة كحياة الدنيا، ويقضى الموت الأبدى على الآخرين (الديانة العبرية)..
ومما علمناه اليوم أنهم أقاموا للكواكب تماثيل لاتغيب عن أبصارهم اذا غابت
الكواكب، فعبدوها مع عبادة الكواكب على سبيل التقريب، والتمثيل..
عين معظم المنقبين تاريخ ابراهيم فى زمن وسط بين أوائل القرن الثامن عشر،
وآواخر التاسع عشر ق.م.، ويجعلونه معاصرا
لدولة "الرعاة" فى مصر، ودولة "العموريين" فى العراق، وانتقل
من "أور"، الى "آشور"، الى "فلسطين"، الى
"مصر"، الى "بيت المقدس"، ثم "صحراء الجنوب"..
الحقيقة ما ذكرناه آنفا عن نسبة ابراهيم الى العربية، فلا يقال عنه انه
اسرائيلى، لأن "يعقوب" هو أول من سمى "باسرائيل"، وهو حفيد
ابراهيم، ولا يقال عنه يهودى؛ لان اليهودى ينسب الى يهودا رابع أبناء يعقوب..
يغلب أن ابراهيم تربى للامامة الدينية، وتعلم العلوم التى كانت شائعة بين
طبقة الرؤساء الدينين، ومنها علم الفلك، والطب، والتعاويذ، ورقى الأسماء..
وواضح من تواتر روايات التوراة، والمشنا أن اللهج ببيت المقدس انما جاء
متأخرا بعد عصر ابراهيم، وعصر موسى بزمن
طويل، وأنه جاء مع عصر المملكة الاسرائيلية، وعملت فيه السياسة عملها
المعهود(تعليق: لم يكن أمر الله لبنى اسرائيل فى القرآن بدخول الأرض المقدسة
للاحتلال، أو احلالهم مكان سكانها الأصليين، ولكنه من قبيل البركة، ونشر الدعوة)،
فبعد موسى بعدة قرون بقيت أورشليم فى أيدى اليبوسيين، واستولى "بنو
بنيامين" على جيرانها، ولكنهم لم يطردوا منها اليبوسيين، ثم تغلب "بنو
يهودا" على المدينة فدمروها، وأحرقوها، ولم يقيموا فيها، وعاد اليبوسيون
فجددوا بناءها، وسكنوها الى أيام الملك
"شاؤول"، ثم استولى عليها "داود" فاتخذها عاصمة، وبنى فيها
"سليمان" هيكلها المشهور..
ان ابراهيم صاحب دعوة دينية، وليس فى المصادر الاسرائلية ما يدل على أنه قد
صنع شيئا لنشر دعوته..
وربما سميت "مكة"، و"بكة" باسم البيت الذى بنى فيها،
لأن البك، والبكة كانا يطلقان على "البيت" فى اللغة السامية الأولى،
ومنها "بعلبك" بمعنى بيت البعل..
اختبر ابراهيم حياة الشرك، واختبر شعائره، وفرائضه، وخلصت له الهداية
بالخبرة، والهداية الالهية، وأصدق ما يكون ذلك على "البعث" خاصة،
فابراهيم هو النبى الوحيد الذى ذكر القرآن الكريم أنه سأل ربه كيف يحى
الموتى؟.. فالحق أن عقيدة البعث خفية فى
كتب التوراة، وأن خفاءها هذا دليل على أنها بقيت زمنا بعد ابراهيم مجهولة، غير
مفهومة، واذا اعتمدنا البحث التاريخى وحده لم يجز فى العقل أن يكون ابراهيم قد ذهب
الى مصر، وعاد منها، ولم يسمع بعقيدة الحياة بعد الموت، وانما سمى أبو الأنبياء
لأنه كان رائد الدعوة النبوية فى العالم الانسانى بأسره..
فالقانون الطبيعى فرض من الفروض، وقد تصلح الجاذبية زمنا لتفسير حركات
الأفلاك، ثم تأتى النسبية فيثبت لبعض العلماء أنها أصلح لتفسيرها من الجاذبية،
ومهما يبلغ من دقة القانون الطبيعى؛ فهو لا يحصر كل الحقيقة، ولابد من جزء محصور،
موكول الى التقدير، والترجيح..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق