أعلنت مصر سنة 1956
أنها تكفل حرية الملاحة فى القناة، وتمسكها بمعاهدة 1888.. بل واستعدادها لبحثها
من جديد مع الدول المستخدمة للقناة.. ولكن الاستعمار أصر على موقفه، وانطلقت ألسنة
الدعاية بحملة منظمة من الأباطيل.. حاولت فيها الوصول الى رجل الشارع الأوروبى..
زاعمة أن مافعلته مصر سينشر الجوع، ويزيد البطالة، ويقضى على الاقتصاد فى هذه
الدول.. فقد تدهور الاقتصاد البريطانى الذى يعانى التضخم أصلا.. لتضع الحكومة
برنامجا لزيادة الانتاج.. بعد أن قامت بالاستغناء عن 13 ألف من موظفيها.. وهو مايؤكد أن هذه الدول ماتقدمت، ونهضت الا
بالاستعمار، ونهب المستعمرات، واستنزاف ثروات شعوبها، وجعلها سوقا رائجة لمنتجات
مصانعها فقط.. فقد ظلت بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، والمانيا، وهولندا، وغيرها من
الدول الاستعمارية ترتع منذ أجيال بعيدة فى بحبوحة اقتصادية ظاهرة الارتفاع على
حساب مئات الملايين من أبناء المستعمرات..
وفى الأمم المتحدة
تم الاتفاق على مشروع من ست نقاط، وتحدد يوم 29 من أكتوبر لاجتماع الأطراف المعنية
بالأمر فى جينيف.. بيد أن اسرائيل هاجمت الحدود المصرية فى هذا اليوم.. وهو مايؤكد
دور هذه الدولة المغروزة فى قلب المنطقة لتكون رأس الحربة لدول الاستعمار(1)..
فهو يحاول دائما التواجد فى المنطقة فى صورة مبادىء، ومشروعات.. فهل كانت قناة السويس هى سبب حرب السويس؟!.. لو
لم تؤمم شركة قناة السويس لحدث العدوان.. فلم يكن الاستعمار ليعدم مبررا للحرب..
تماما كما يحدث الآن..
كانت بريطانيا
تستولى على خمسة ملايين من الجنيهات من دخل قناة السويس، كما أثارت حكومتها بقيادة
"ايدن" خوف الغرب على بترول الشرق الأوسط.. وفقد هذه الثروات يعرض خمسة
ملايين عامل للتعطل، ويقضى على الصناعة فى غرب أوروبا..
يعلن مستر "بيفن"
فى مؤتمر حزب العمال سنة 1948 عن خطته فى حل مشكلة بريطانيا الاقتصادية:
"اذا نحن ربطنا دول الكومنولث(2)، وبلاد ماوراء
البحار التى أخذنا مسئوليتها على عاتقنا المشترك بمهارة الغرب، واستعداده، وقدرته
الانتاجية.. فاننا نستطيع حينئذ أن نحل مشكلة ميزان مدفوعاتنا، ويستطيعون هم من
ناحية أخرى أن يظفروا بمستوى معيشة يزداد فى ارتفاعه مع الأجيال القادمة(3)"..
ذكر "رودس(4)"
سنة 1895 محددا حتمية الاستعمار:
"كنت بالأمس فى الايست اند بلندن.. وحضرت اجتماعا
للعاطلين، وسمعت الخطب النارية.. فلم تكن سوى صيحات من أجل الخبز - الخبز - الخبز، وتأملت المشهد فى طريق عودتى.. فأصبحت
أكثر اقتناعا من ذى قبل بأهمية الاستعمار، لقد أوحى الى هذا المشهد أن حل المشكلة
الاجتماعية، وانقاذ أربعين مليونا من سكان المملكة البريطانية من حرب أهلية
دموية.. يتطلب منا نحن رجال الدول الاستعمارية أن نعمل على تملك أراض جديدة لتسوية
مشكلة ازدياد السكان، والحصول على أسواق جديدة لتصريف بضائعهم من منتجات المصانع،
والمناجم.. ان الامبراطورية – كما سبق أن قلت دائما – هى مسألة الخبز، والزبد..
فاذا أردتم تجنب الحرب الأهلية.. فعليكم أن تصبحوا استعماريين"..
أما "تشمبرلين"
فيقول بدوره:
"اننى أعتبر كثيرا من مستعمراتنا مناطق متخلفة، وأن سياسة
الحكومة تستهدف تنمية مصادر المستعمرات الى أقصى حد ممكن، واننى أرى أن مثل هذه
السياسة وحدها هى التى تستطيع أن تقدم حلا لهذه المشاكل الاجتماعية الكبرى التى
تحيط بنا".. ويقول فى تصريح له عام 1896:
"صدقونى أن خسارة سيطرتنا ستؤثر بالدرجة الأولى على الطبقة
العاملة فى بلادنا"..
وقد تلاحظ دخول
انجلترا فى الأزمات الاقتصادية بعد أن تقلصت مستعمراتها.. فنقصت المساحات
المزروعة، وتخلفت الصناعة البريطانية بالنسبة للتقدم الصناعى، والفنى فى أمريكا،
وروسيا، والمانيا.. وهو مانوهت اليه التايمز البريطانية فى احدى مقالاتها
الافتتاحية الأول مارس 1949:
"ان القلاقل(الثورات) فى المنطقة الآسيوية تهدد الموارد
الغنية بالمواد الخام التى تحتاجها بريطانيا، وفرنسا، وهولندا.. فبفضل نصف مليون
طن من المطاط، وستون ألف طن من القصدير كانت تنتجها الملايو سنويا قبل الحرب،
وبفضل أرز بورما، ومعادنها، وأخشابها.. مااستطاعت هذه البلاد أن تجمع جزءا كبيرا
من فائض دولارات منطقة الاسترلينى"..
وتنشر
"النيويورك تايمز" لمراسلها فى جينيف بتاريخ 11 من يناير 1949 قوله:
"لاريب أن مستوى المعيشة العالى فى أوروبا يتوقف – الى
درجة ما – على مدى مايتوافر من مواد خام، وعمل رخيص فى آسيا، وأفريقيا.. وأن تعمير أوروبا لن يمكن تحقيقه بدون هذه
الثروة"..
كتب أحد السفراء
الأمريكيين للرئيس الأمريكى "ولسن" يقول:
"ان مستقبل العالم لنا، والآن يجدر بنا أن نفكر فيما عسانا
أن نفعله عندما يتضح أن مقاليد العالم قد ألقيت تماما في أيدينا، وفيما عسانا أن
نفعله كى نستخدم البريطانيين بأقصى ما تتيح لنا الديمقراطية.. ان الامبراطورية البريطانية قد آذنت أن تصبح فى
ذمة التاريخ، وان أمريكا هى الوريث الطبيعى لزعامة العالم بعد أن سيطر عليه
البريطانيون لأكثر من قرنين من الزمان، لقد كنا مستعمرة بريطانية فى وقت من
الأوقات، وستصبح هى مستعمرتنا عن قريب بالفعل، لابالقول.. لقد مكنت الآلات بريطانيا من فرض سيطرتها على
العالم، والآن فان آلات أخرى أفضل ستمكن أمريكا من فرض سيطرتها على العالم، وعلى
بريطانيا"..
وهكذا تسلمت أمريكا
الراية الاستعمارية للاستحواذ على مقدرات العالم بالتهديد، والابتزاز، والحرب..
كدولة يعيش فيها 5 % من سكان العالم على ثلث موارده..
ولكن مادخل
الفرنسيين فى موضوع تأميم قناة السويس؟!..
ان الرأى العام
الفرنسى يشتد حقده على حكومة "دى مولييه" بسبب حرب الجزائر التى أرسلت
اليها فرنسا نصف مليون جندى، يتبعهم نصف مليون أسرة فرنسية فى حالة من القلق
المستمر، وكان ينبغى على الحكومة مفاوضة الوطنيين الجزائريين، والتسليم بمطالبهم
لتنتهى الحرب.. وهو حل لايرضى الساسة الذين لايستطيعون التواجد بدون الأزمات،
والرشاوى.. فالذى يغذى حملة الجزائر هم أصحاب رؤوس الأموال، وكبار أساطين
الاستعمار فى شمال أفريقيا.. فوجدت الحكومة نفسها فى مأزق، وجاءت أزمة القناة
لتلقى الحكومة بفرنسا فى أتون الأزمة كى تحول الأنظار عن مأزق الجزائر، وفى ذات
الوقت القضاء على عبد الناصر الذى يدعم ثورة الجزائر..
وقامت شركة القناة
عن طريق "شارل رو"، و"جورج بيكو" بنشاط كبير.. فدفعت الأموال
الطائلة الى عدد من النواب، والسياسيين ليكتبوا، ويخطبوا فى البرلمان ضد عبد
الناصر، ويثيروا ضده نفوس الفرنسيين بأنه ديكتاتور، وتشبيهه بهتلر، وقد ثبت أن
شارل رو هو الذى يكتب المقالات التى ينشرها "بول رينو" رئيس وزراء فرنسا
السابق.. كما حشر وزير خارجية فرنسا اسرائيل فى الموضوع باثارة حق السفن
الاسرائيلية فى المرور بالقناة..
ويسافر جى مولييه
الى الجزائر للتشاور مع وزيره هناك "لاكوست" – الذى يلازم احدى
المستشفيات بعد اجراء عملية لاستئصال احدى الكلى – على برنامج شامل يعرض على
الجزائريين لوقف القتال قبل أن تنكشف الأمور لتصل الى اتفاق مع الجزائر، وثوارها
ليقبلوا على أساسه المفاوضة مع فرنسا، وانهاء الحرب.. ولما كانت فرنسا لاتريد أن
تظهر بمظهر الضعف أمام الجزائريين.. فهى تؤكد استمرار الاستعدادات العسكرية ضد مصر..
فى الوقت التى أوشكت فيه ميزانيتها على
الافلاس بما لايستطاع معه استمرار حرب الجزائر..
عرضت فرنسا على الجزائر حلا للمشكلة باقامة حكم ذاتى فى اتحاد فيدرالى مع
فرنسا.. على أن يترك لفرنسا مسئوولية الدفاع، والاقتصاد، والسياسة الخارجية، وبالطبع
رفض الجزائريون المشروع.. فقامت فرنسا بفرض ضرائب جديدة على الشعب الفرنسى للحصول
على ماقيمته 150 مليون جنيه لتمويل حرب الجزائر خلال ثلاثة شهور، ومالم تحل
المشكلة خلال الشهور الثلاثة.. ستضطر الحكومة الى فرض ضرائب جديدة(5)..
(1) ومفهوم
الاستعمار مستمر من النشأة حتى الآن.. مع تطور الأساليب.. حيث بدأ بالرحالة، ثم
الكشوف الذى سموها – تمويهاً - جغرافية،
ثم المعاهدات، وعقد الشركات، ثم الاحتلال العسكرى السافر، ثم العودة مرة أخرى الى
التحالفات، والمعاهدات، ثم الاحتكار، والاحتلال الاقتصادى.. وفى كل المراحل تنشط
الأيدولوجيات، والآلة الاعلامية الضخمة التى عادة ماتنقسم فى الغرب بين مؤيد،
ومعارض عملا بمبدأ تقسيم الأدوار، وترويجا لدور الديمقراطية، والحريات..
(2) وهى دول
المستعمرات البريطانية..
(3) نفس منطق
تونى بلير رئيس حزب العمال، ورئيس الوزراء البريطانى أثناء احتلاله للعراق مع
أمريكا هذه الأيام من أجل استزاف البترول، والمواد الخام لبيعها مرة أخرى الى
الشعوب المحتلة لحل مشاكلهم الاقتصادية، وتشغيل عمالهم، وشركاتهم، وموظفيهم)..
(4) وهو أحد أساطين الاستعمار مثل
"دزرائيلى"، و"تشمبرلين"..
(5) تمت الاستعانة بكتاب الأستاذ صلاح الدسوقى..
"الاستعمار المشترك".. 1956..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق