السبت، 23 فبراير 2013

تطور الفكر العربى




   من كتاب "تطور الفكر العربي" للدكتور "محمد عبد السلام الشاذلي" إصدار الهيئة العامة للكتاب:
   خلص للعثمانيين أمر مصر بعد أن هزم الجيش التركي بقيادة "سليم الأول" جيش المماليك البحرية في "موقعة مرج دابق" 1517 م, ورجع سليم الأول بلاده بغنائم الفتح، وأهمها "المتوكل على الله" ابن المستمسك بالله يعقوب أخر خلفاء بنى العباس الذين فروا إلى مصر منذ أن دمر "هولاكو" التترى حفيد جنكيز خان دار "الخلافة" ببغداد سنة 1258م, ومن ثم انتقل أمر الخلافة من بنى العباس، إلى آل عثمان؛ كما فقدت مصر الزعامة الدينية في الشرق الإسلامي..
   كما أفرغ الفتح العثماني البلاد من طوائف العلماء، والقضاة، والأعيان، والتجار، وأرباب الصنائع؛ وهم من أهم مميزات المرحلة الثالثة، والأخيرة من القرون الوسطي التي ترجع بدايتها من القرن السادس عشر، وتنتهي في أواسط القرن السابع عشر(150 سنة)، وفقدت مصر أيضا زعامتها الحضارية، والعمرانية في ذلك الوقت..
   كان لليهود أهمية بالغة في نهاية العصور الوسطي بالنسبة للفاتح العثماني؛ وذلك لتخصصهم في الأعمال التجارية القائمة على الربا، وكانت أموالهم محط نظر الفاتح العثماني الذي فرض عليهم التوجه إلى اسطنبول فأخذوا نساءهم، وأولادهم..
   ويقدر "ابن إياس" هذه الإعداد بقوله:
-"وقيل إن عدد من خرج من أهل مصر على اسطنبول ألف وثمانمائة إنسان"..  كما يقدر "الجبرتي" ما فقد من مصر وقتئذ:
-"نيف وخمسون صنعة".. ولم يترك السلطان العثماني في مصر سوى شرذمة من صعاليك الجراكسة، والسلاطين المصريين بعد أن عفا عنهم، ولم يتعرض لأموالهم؛ فتحالفوا مع الوالي العثماني على قهر الشعب المصري، ونهب مقدارته ماديا، ومعنويا..
   فقد نائب السلطان العثماني سلطته الفعلية، وأصبح "على" بك الكبير سنه 1763م. الحاكم الفعلي للبلاد؛ معلنا استقلال مصر عن الدولة العثمانية سنة 1769م., فأوقعه "محمد بك أبو الذهب" أسيرا في "موقعة الصالحية" 1773م.، وهو العام الذي توفى فيه فعادت البلاد لسيطرة المماليك بزعامة "مراد بك"، و"إبراهيم بك"..
   وهناك فروق محددة بين الهبات، والانفجارات الاجتماعية، وبين الثورة الاجتماعية التي هي تغيير شامل، وجذري في البناء السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي..
   فالحركات الانفصالية التي قامت في بعض الولايات العربية ضد السيطرة العثمانية كانت تعبر عن بعض مظاهر نمو "الوعي السياسي"، ولم يكن مرتبطا بمجي "الحملة الفرنسية" إلى مصر سنة 1798م. كما يزعم بعض المؤرخين؛ بل كان ذلك قبل مجي الحملة الفرنسية بمدة تزيد عن ربع قرن، فمن الصعوبة البالغة أن نعلل ظهور الفكر العربي الحديث في مصر بالتعرض المباشر(للتيارات الفكرية، والاجتماعية في الحضارة الغربية)؛ أى بظهور حملة "بونابرت" على مسرح التاريخ المصري رغم الصعوبات التي فرضتها الدولة العثمانية تجاه تقدم تلك الحركة العقلية، والفكرية نحو الاحاطة  بالعلوم الطبيعية، والتاريخية التي تراكمت عبر الزمن الطويل من حياة التراث العلمي للشعوب العربية..
   ولم يكن ذلك بالطبع داخل حدود البرامج الرسمية للأزهر الشريف بمصر؛ حيث اقتصرت تلك المناهج على العلوم السلفية الشرعية من تفسير، وحديث، وفقه، والعلوم اللسانية من نحو، وصرف، وبلاغة، ولكن بعض علماء الأزهر قد تجاوزوا حدود المعارف التقليدية فتحولت بيوت بعضهم إلى منازل لدرس العلوم الطبيعية، والرياضية، والفلكية، وهذه الاحاطة بالمعارف العلمية تحولت بصعوبة متناهية على تراكم هائل من النزعات الدينية، والصوفية، ولم يتخلص بعض الذين اهتموا بالعلوم المنطقية، والرياضية من أثر المباحث الكلامية، والعقائدية بصورة نهائية؛ فقد اهتم الشيخ "حسن الجبرتي"(أبو عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المعروف) بالعلوم الطبيعية، والرياضية نظريا، وعلميا إلى جانب اهتمامه بالعلوم الشرعية؛ كما تعلم اللغة الفارسية، والتركية، وكان اهتمامه بهذه العلوم الرياضية، والطبيعية نتيجة لاتصاله بأحد علماء الهند الذين نزحوا إلى مصر في تلك الفترة؛ وهو الشيخ "حسام الدين الهندي"، كما اقتنى الشيخ حسن الجبرتي الكثير من الأدوات الهندسية، والفلكية، وأدوات غالب الصنائع مثل النجارين، والخراطين، والحدادين، والسمكرية، والمجلدين، والنقاشين، ويجتمع به كل متقن، وعارف في صناعته مثل "حسن أفندي الساعاتي"، والشيخ "محمد الزيدانى"، وكان فريدا في صناعة التراكيب، والتقاطير، واستخراج المياه، وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه فى الهندسة، وأهدوا إليه من صنائعهم، وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم، ونشروا بها ذلك العلم من ذلك الوقت، وأخرجوه من القوة إلى الفعل، واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه..
   ومن معاصري الشيخ حسن الجبرتي الشيخ "أحمد عبد المنعم ابن يوسف بن صيام الدمنهورى" الذي ولى فيما بعد "مشيخه الأزهر"؛ والذي تتلمذ على الشيخ حسام الدين الهندي،  ويشير "الطهطاوي" إلى إهمال "محمد على" في تدريس تلك العلوم المصرية بالجامع الأزهر، ويسترسل الطهطاوي عن مشايخه في كتابه "مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب المصرية":
-"فانظر إلى هذا الإمام الذي كان شيخ مشايخ الجامع الأزهر؛ وكان له في العلوم الطبية، والرياضية، وعلم الهيئة الحظ الأوفر مما تلقاه عن أشياخه الأعلام، فضلا عن كون أشياخى كانوا أزهرية، ولم يفتهم الوقوف على حقائق هذه العلوم النافعة في الوطنية، وفيما ذهب إليه ابن سينا بقوله:"إن ذات الله نفس الوجود المطلق"، قد فتح الباب على مصراعية أمام التيارات العديدة للفلسفة الصوفية في الاسلام، ونستطيع أن نلمس أثر الحكمة الإشرافية لابن سينا في "السهروردى"، و"ابن عربي"، و"ابن الفارض"؛ فى محاولة التحرر من السيطرة الأرسطية، كان الطريق المشترك لابن سينا، والسهروردى كما يتضح من كتاب "الشفاء"، و"الإشارات والتنبيهات" لابن سينا، وقول ابن سينا المذكور آنفا عن ذات الله هو نفس "النور الالهى" للسهروردى، و"وحدة الوجود" لابن  عربي"..
   وصار الجيل التالي لهؤلاء في تيار الاهتمام بالمعارف العلمية محاولا إصلاح وعيها الصوفي عن طريق الإلمام بالعلوم الرياضية، والطبيعية، والجغرافية، والتاريخية، مثل الشيخ "حسن العطار"، والشيخ "أحمد الخشاب"، والشيخ "عبد الرحمن الجبرتي"، وقد تجاوز هؤلاء الرواد الثلاثة العقد الرابع من أعمارهم حين دخل بونابرت القاهرة في 21 يوليو 1798م؛ وبذلك تكون حياتهم الثقافية قد تشكلت تحت تأثير العلوم، والمعارف التي تم اكتسابها من خلال تطويرهم للتراث العلمي العربي؛ فكان لنضجهم العلمي السابق على مجيء الحملة الفرنسية أثره في تجاوبهم مع مظاهر العلم، والحضارة الفرنسية..
   ونلمس بوضوح بداية الاتصال المباشر بالعقلية الأوروبية – ولاسيما أفكار عصر التنوير الفرنسي –  من أحد تلامذة الشيخ حسن العطار؛ وهو "رفاعة رافع الطهطاوي"( 1801- 1873م.)؛ وذلك خلال الفترة التي قضاها في فرنسا( 1826- 1831م.)؛ حيث أحس الطهطاوي بأن الثقافة الأزهرية وحدها لم تعد تتلاءم مع ظروف عصرهم، وأحسوا بضرورة دعوة مواطنيهم إلى الاستفادة من علوم الغرب كما يقول د. "عبد المحسن طه بدر" فى كتابه "تطور الرواية العربية الحديثة فى مصر"، وقد كان موقف الطهطاوي بالنسبة للحضارة الغربية عامة هو الإحساس بمظاهر التفوق في نظمها السياسية، وبعض تقاليدها وعاداتها، وقد وقع الطهطاوي شأن معاصريه من أرباب التنوير، والتبشير بالحضارة الغربية بين فكي الرحى، وراحوا يترددون فيما بين حضارتهم الأصلية، والحضارة الغربية؛ فوقعوا في الخلط، وبلبلة الحائر؛ فعندما يتأمل نظام الحكم الديمقراطي في فرنسا نراه يفكر في نظام الشورى في الشريعة الإسلامية، كما نجده يكيف مفهوم الوطن، والوطنية بمفهوم الإخاء في الدين، أو الأخوة الإسلامية..
   ويشيرالطهطاوى إلى أهمية العلوم العصرية الأوروبية بعد الإشارة إلى عجز محمد على عن تطوير الأزهر؛ لاسيما حسب اعتقاده أن هذه العلوم التي يظهر أنها أجنبية؛ وهى علوم إسلامية نقلها الأجانب إلى لغاتهم من الكتب العربية، ولم تزل كتبها في خزائن ملوك الاسلام كالذخيرة إلى الآن؛ بل لازال يتشبث بقراءتها، وهو ما ذكره في كتابه "مناهج أولى الألباب"..
   ويقول د. شكري عياد في مقاله "أدبنا المعاصر بين التغيير والاستمرار" في مجلة "المجلة":
-"لقد كان دعاه التنوير يستشعرون رياح التغيير من الغرب، ويفتحون له  صدورهم، ولكنهم لم يرتابوا فيما تحمله من جراثيم  الاستعمار"..  فقد كانت القيم الثقافية، والحضارية التي تعرف عليها الطهطاوي في فرنسا عبارة عن تجسيد للأماني، والمثل العليا للبرجوازية الفرنسية، وان كانت تلك المثل قد تبلورت بحيث تبدو على أنها الأمانى، والمثل العليا للإنسانية بصفة عامة، فلقد ظلت أفكار الطهطاوي تراوده نحو إمكانية تطوير الشريعة الإسلامية نحو نظام الحكم السياسي ليكون أقل استبدادا من الحكم المطلق "لمحمد على"، وأسرته، وهى الفكرة التي حاول أن يطبقها "الخديوي إسماعيل" بإنشاء "مجلس شورى النواب" سنة 1866م.، وعرف في عهد "توفيق" باسم "مجلس النواب" في 26 ديسمبر 1881م.، ولقد كانت هذه المجالس مظاهر شكلية للحكم الاستبدادي في عهد أسرة محمد على، وكانت تلك الأفكار مصدر الهام سياسى "لأحمد عرابي"(1839- 1911م.) الفلاح الذي قضى أربع سنوات في دراسة العلوم الشرعية بالأزهر، والذي يذكر الإمام "محمد عبده" في مذكراته أن تمسك الزعيم أحمد عرابي بالحكم النيابي يرجع إلى إطلاعه على الكتب المترجمة، ويقارن الأستاذ الإمام في مذكراته عن "الثورة العرابية" تلك الثورة "بالحروب الروسية التركية" في عام 1876م. وما نتج عنها من الدوافع الأساسية التي كانت وراء العرابيين في المطالبة بإنشاء مجلس نيابي، وإعلان الدستور،  وكان كذلك من نتائجها الحرب بالنسبة لتركيا أن تطورت نظمها السياسية فأعلنت عقب هزيمتها في حربها مع روسيا في 1871م. إنشاء مجلس نيابي على الطراز الأوروبى، ورغم ماسلبه السلطان سليم العثماني من أعمده رخامية من مساجد  القاهرة، وقصور الأمراء نلحظ التقدم الهائل في فن العمارة في ذلك الوقت، وان كان هذا الفن قد خلع عنه الشكل الاسلامى في عصر إسماعيل متخذا الشكل الاوروبى؛ شأنه في ذلك شأن بقية مظاهر الحياة الثقافية، والحضارية..
   كانت الثورة العرابية من نتائج وجود "جمال الدين الأفغانى" بمصر؛ التي نزلها في 23 مارس 1871م.(نفى منها بقرار الخديوي توفيق الذي كان رئيسا للوزراء وقتها في 26 من أغسطس 1879م.)؛ والذي تأثر به الإمام محمد عبده  الطالب بالمسجد الأحمدى بطنطا، والذي أعلن مع الشيخ "حسين المرصفى" تأيدهما لعرابي، وخلع الطاعة للخديوي توفيق عندما تبين للعرابيين تحالفه مع الإنجليز إبان  المقاومة العرابية لضرب الإسكندرية من قبل الأسطول الانجليزى في 17 من يوليو 1882م. حيث شكل عرابي "المجلس العرفي" لإدارة المعركة كمجلس عسكري، و"الجمعية العمومية" كمجلس لإدارة شئون البلاد، وتليت فتوى شرعية من الشيخ "محمد عليش", والشيخ "حسن العدوى"، والشيخ "محمد أبو العلا الخلفاوى" بمروق الخديوي عن الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، ووقع على قرار الجمعية العمومية خمسمائة من العلماء، والقضاة، والمفتشين، ومديري المديريات، وكبار الأعيان، ومشايخ البلاد ضمنهم شيخ الأزهر "محمد الانبابى" وقاضى مصر "عبد الرحمن نافذ"، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط الأرثوذكس، وحاخام اليهود كما ذكر "الرافعى" في كتابه "الثورة العرابية"..
حركة الإصلاح الديني عند الافغانى ومحمد عبده:
   يصف الأستاذ الإمام الحالة الاجتماعية، والسياسية التي هيأت المناخ الفكري لحركة الإصلاح الديني في مصر بأن المصريين قبل سنة 1293 هـ - 1876م  كانوا يرون شئونهم العامة، والخاصة ملكا لحاكمهم الأعلى، أو من ينوب عنه في تدبير أمورهم، ولا علاقة بينهم، وبين الحكومة سوى أنهم مملوكون لها، ومع سفر البعض منهم إلى البلاد الأوروبية أيام محمد على لم يشعر الأهالى بشىء من ثمرات هذه الأسفار، وجاء الأفغانى الذي اشتعل بتدريس بعض العلوم العقلية، وكانت مدرسته بيته الذي يجتمع فيه الناس فلا يسلم من الحديث عما يثير العقل، والتفكير موجها إلى النظر في الشئون العامة مما يمس مصلحة البلاد؛ بل انه أسس حزبا مصريا باسم "الحزب الوطني الحر" كان من أغراضه السعي لتنازل الخديوي إسماعيل..
    في 7 سبتمبر 1879م. تشكلت وزارة "مصطفى رياض باشا" بإيعاز من فرنسا، وانجلترا؛ وهو صاحب الإصلاحات الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية كإلغاء السخرة، وإنهاء سيطرة كبار الأعيان في الريف المصري، ولكنه وقف ضد الحركة الدستورية، وكان قد نصب "عثمان رفقي" وزيرا للحربية بإيعاز من الدول الأجنبية؛ والذي كان متعصبا لبنى جنسه من الضباط، والجنود "الجراكسة" وحتى تحد من طاقة الجيش المصري، ومن هنا كان سخط العرابيين على رياض باشا؛ فتحالفوا مع "سلطان باشا" أحد كبار الأعيان الذي انتهى به الأمر إلى خيانة العرابيين أثناء القتال في التل الكبير، وذلك بواسطة الجواسيس من العربان، والأجانب؛ الأمر الذي قدره الخديوي توفيق بمنحه مكافأة ضخمة نظير خدماته في المساعدة على هزيمة العرابيين، كما منحته "ملكة بريطانيا" لقب "سير"..
   كان نمو الشعور بجامعة اللغة وقتئذ بين بنى الأمة النواة الأساسية لفكرة "القومية العربية"، وظهر هذا على صفحات "الوقائع المصرية" التي كانت تتحرر باللغة التركية، ثم بالتركية، والعربية، ثم أخيرا باللغة العربية وحدها، وذلك لتحرير الفكر من قيود التقليد، وفهم الدين الاسلامى فهما جيدا على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف..
    كان محمد عبده حذرا بداية من اندفاع العرابيين بثورة قبل الأوان، وهو الذي سيجر على البلاد الاحتلال الأجنبى، ولكن لما استفحلت الحركة العرابية انضم اليهم الشيخ، وكان يقول عن الأفغانى لو كان يومها في مصر لما قامت الحركة العرابية أصلا، ولم يكن هناك احتياج إليها؛ لأنه كان يغنى بشخصه عن كل ذلك..
   ولقد عبرت حركه الإصلاح الديني عند الامام عن فكرة القومية العربية، ويقظة المشاعر العربية، وهى التي تولدت عن الكبت السياسي، والفكري، والأدبى التي كانت تمارسه الدولة العثمانية تجاه ثقافة، وآداب البلاد العربية الإسلامية التابعة لها..
   وفى مقارنة بين حركة الإصلاح الديني في كل من أوروبا، ومصر يقول المؤلف: "ارتبطت حركه الإصلاح الديني في أوروبا بنمو الروح السياسية، والقومية من ناحية، ونمو الروح الاجتماعية المضادة للمصالح الإقطاعية من ناحية أخرى في نظرة سريعة على تاريخ أوروبا إبان عصر النهضة؛ وهو العصر الذي صاحب مرحلة انحلال النظام الاقطاعى الاوروبى ونشوء العلاقات البضائعية النقدية"..
   فقد تمكن التجار "البرتغاليون"، و"الأسبان" عن طريق الاكتشافات الجغرافية التي قام بها "كولومبس" لأمريكا عام 1492م  أن يكدسوا الكثير من الثروات النقدية التي ساعدت وقتئذ على تراكم الرأسمال الأوروبى؛ مما ساعد على التطور السريع للاقتصاد الرأسمالى، وفى تلك الفترة ذاتها تشكلت القوميات في القارة الأوروبية، وكان لابد من ظهور شكل سياسي جديد يستطيع السيطرة على تلك التطورات العميقة؛ ألا وهى الحكم الملكي المطلق..
   وتم الانتقال وقتها من "الكنيسة الكاثوليكية" التي تعبر عن المصالح الإقطاعية بصورة، أو بأخرى إلى كنيسة جديدة وهى "الكنيسة البروتستانتية" التي راحت تعبر عن مصالح "الطبقة البرجوازية" الناشئة..
   ومن هنا يمكننا أن نلمس بعض التشابه بين مبادى الكنيسة البروتستانتية، والمبادى التي قامت عليها الحركات الإصلاحية الدينية في الشرق الاسلامى "كالحركة الوهابية" على سبيل المثال، والتي تأثر بتعاليمها الأستاذ الإمام؛ وهى التعاليم التي كانت منتشرة في مصر أواسط الناس منذ أيام الحملات التنكيلية التي قام بها الوالي المصري "محمد على وابنه إبراهيم" على الوهابيين في الجزيرة العربية؛ ففي مصر شب محمد عبده فرأى تعاليم "ابن عبد الوهاب" تملأ الجو؛ فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهد الرسول، إلى عهد "ابن تيمية"، إلى عهد ابن عبد الوهاب، وكان أكبر أمله أن يقوم في حياته بعمل صالح للمسلمين؛ فهداه اجتهاده، وبحثه إلى هذين الأساسين اللذين بنى عليهما محمد بن عبد الوهاب تعاليمه وهما:
1.   محاربه البدع، وإشراك الأولياء مع الله تعالى، وإنكار عصمه أولياء الله..
2.   فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقول من المقلدين..
   وقد امتاز محمد عبده فوق ذلك بثقافته الدينية، والدنيوية الواسعة..
   وكذلك فى أوروبا أنكر مارتن لوثر luther  (1483 – 1546م.) على الألمان عصمة بابا روما، وصكوك الغفران التي كانت تبيعها الكنيسة الكاثوليكية لجمع مبالغ طائلة في خزينة البابا، وكما اتخذت الحركة الوهابية "القرآن"، و"السنة" لمعرفة الحقيقة؛ اعتبرت الكنيسة البروتستانتية "الكتاب المقدس" المصدر الوحيد للمعرفة..
   وصاحب تطور "القوى الإنتاجية" في عصر النهضة تطورات هائلة في العلوم الطبيعية؛ كالفلك، والميكانيكا، وكما تحقق لوثر بأن الأرض كروية نتيجة اكتشاف كوبرنيكس، وجاليليو؛ تحقق الأفغانى في كتابه "الرد عن الدهريين" بأن العالم خاضع "لنظرية التطور" كما صاغها "داروين"..
   وكانت حركة الاحياء لدى محمد عبده، وأتباعه لمقاومة حركة "تتريك الشعوب العربية" من قبل الإمبراطورية العثمانية، وذلك عن طريق إحياء التراث، واحياء فكرة القومية العربية كما بدا بوضوح في أعمال "عبد الرحمن الكواكبى" السوري الأصل..
   كما تجسدت أفكار، ومبادىء الكنيسة البروتستانتية في مذهب المبشر السويسري "جان كالفن Kalvin" ( 1509 – 1564م.)، وتشكلت أول جمهورية برجوازية بأوروبا في "هولندا" عام 1581م.، وتحولت "مملكة الله" إلى جمهورية، وسقطت سيادة "الملوك الإقطاعيين"..
   وخضعت الطبقة الأرستقراطية "لنقابات الحرف" في القرن الرابع عشر؛ فأسهمت في كثير من "الحركات الشعبية"، واستمرت الصراعات الاجتماعية، والاقتصادية خلال القرنين الخامس، والسادس عشر..
   وكما جرى الصراع بين الكنيستين صار أيضا بين الاقطاعين، والبرجوازية الأوروبية التي انتشرت منها إلى الشرق الاسلامى ضد "الإقطاعية العثمانية"، وقد بدأت الحروب التركية(1768 – 1774م.) حين اتضحت أهمية مداخل البحر الأسود؛ "الدردنيل"، و"البسفور" للتجار الروس، ومع تطور الرأسمالية اللاحقة في القرن التاسع عشر تزايدت أطماع الدول الأوروبية؛ "كفرنسا"، و"انجلترا" في بلاد الشرق الاسلامى..
   أهبطت المعاهدات التي عقدها الباب العالي مع الدول الكبرى لفتح أبواب الإمبراطورية العثمانية للتجارة الحرة لكل المحاولات التي قام بها محمد على للإشراف على زراعة مصر، وتشجيع الصناعات المحلية فيها؛ كما دأبت هذه الدول على فرض امتيازاتها على المجتمع العثماني لدفع تركيا إلى الدخول في مجال الإصلاحات الاقتصادية، والاجتماعية، والبرجوازية، وللدخول أيضا في عصر "التجارة الحرة"، وإصلاح أحوال المسيحيين تحت رعاية الدولة العثمانية..
   كان التغيير نتيجة هزائم "تركيا"، و"إيران"، و"مراكش"، و"مصر" كرد فعل أدى إلى ظهور الحركات الإصلاحية الدينية كاستجابة أيضا للتغيرات الاجتماعية؛ بيد أنها عارضت الخضوع الذليل أمام الأوهام الاستعمارية في "الحرية"، و"الحضارة" مثل؛ "الوهابيين"، و"السنوسيين"، و"المهديين" الذين شنوا حربا مقدسة على "الأتراك المارقين" الذين خانوا الاسلام بتقليدهم للغرب..
   وليس لهذا السبب فقط حارب محمد بن عبد الوهاب( 1703- 1791م.) الأتراك؛ بل لنيل حرية الجزيرة العربية من قبضة السيطرة التركية، والعمل على توحيد البلاد العربية، ولو لم يجتمع "الترك"، و"المصريون" على حرب هذا المذهب في داره بقوى، وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرنيين الثاني، والثالث عشر الهجريين؛ كما وحد ظهور الاسلام كلمتهم في القرن الأول كما يقول طه حسين في كتابه "ألوان"..
   وظهر المصلح "السيد أحمد خان" بين مسلمي الهند، وقامت ثورة "فيجى" في اليابان سنه 1860م.، وثورة "كومتنانغ" في الصين سنة 1920م. كانتصار للحضارة الغربية العلمانية الحديثة..
   وكما رأينا أدى هذا الصراع إلى ظهور مذهب جديد في المسيحية(البروتستانتية)؛ ولكنه لم يؤد الى ذلك في الاسلام؛ بل كان تجديدا..
(تعليق: بدأ ظهور مذاهب، وأحزاب مثل؛ "الشيعة"، و"الخوارج" في صدر الاسلام اثر الصراع السياسي على السلطة؛ والذى كان موازيا لتراكم رأسمالى هائل أدى الى ازدهار الفتوحات السياسية – كما حدث بعد ذلك فى أوروبا - بحجة نشر الدين الجديد الذى كان مؤهلا أصلا بطاقته الروحية، وعقلانيته المادية البحتة للانتشار السريع كما حدث بعد ذلك من انتشار الاسلام فى "شرق آسيا"، و"جنوب أفريقيا"، وحديثا فى أوروبا، والأمريكتين؛ حيث كان الاسلام هو الدين الوحيد فى التاريخ البشرى الذي اختلط بالسياسة بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، وأقام "دولا سياسية" تحت زعم "الخلافة"، وهو مانلحظه الآن من أن تعداد المسلمين فى العالم العربى، وبعض الدول فى الشرق حتى الهند – وهى البلاد المفتوحة بالحرب – لايقرب بحال من نصف تعداد المسلمين فى أنحاء العالم)..
   كانت خطة الإصلاح لدى الافغانى ترمى إلى "وحدة العالم الاسلامى" عن طريق "الخلافة" الإسلامية، أو "الجامعة" الإسلامية، وعند محمد عبد تعتمد أساسا على "طاقة" الشعوب الإسلامية، والعمل على ترتيبها سياسيا لخلق "رأى عام مستنير"، وكما يقول عنه الأستاذ عبد الرحمن الرافعى في كتابه "الثورة العرابية":
-"ونقطة الضعف في شخصيته هي تخلفه عن الكفاح السياسي، واختلافه من هذه الناحية مع أستاذه الأفغانى؛ حيث بدأ انقطاعه عنه منذ عودته إلى مصر سنه 1889م.؛ فترك أستاذه يعانى متاعب الكفاح السياسي، وآلامه، ومرارته؛ بل أن الأفغانى توفى سنة 1897م. فلا نجد للإمام كلمة رثاء له، وهذه الناحية هي أثر من آثار الاحتلال في أخلاق الأمة ونفسيتها..
   ويقول "جرجى زيدان" في كتابه "بناة النهضة العربية":
-"إن أهل العصبية الإسلامية يرون أن التقارب الاسلامى الغربى، ومجارة أهل التمدن الحديث بأسباب، وتسهيل الاختلاط به يضعف عصبية الاسلام، ويبعث على تشتيت عناصره؛ فيستحيل جمعها في دولة واحدة، أما محمد عبده فقد سعا في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا، ولبس القبعة، ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق