السبت، 2 مارس 2013

القومية العربية والاستعمار



   يقول الأستاذ "محمد عطا" في كتاب "القومية العربية والاستعمار" المنشور ضمن مجموعة "اخترنا لك – 32"، والذى صدر في ستينيات القرن العشرين، تحت عنوان دراسة الحروب الصليبية اذ يرى مبلغ تعصب هؤلاء، وتدميرهم للبلاد التى فتحوها، واذلا لهم لأبناء هذه البلاد، والعمل على تحطيم معنوياتهم، والتمثيل بالألوف المؤلفة منهم في غير شفقة، أو رحمة،  فقد بلغ تعدادهم 120 ألفا أثناء زحفهم على الشام، تمدهم دول أوروبا الغربية، والشرقية بالعتاد، والمال، ثم أغارت بعدها جحافل التتر بقيادة "كتبغا Kitbugha " على الشام..
   انقست الدولة العباسية الثانية إلى دويلات بفعل العصبية القبيلة التى اشتدت حين ضعفت الحكومة المركزية في بغداد، واستخدام الخلفاء للعناصر الأحنبية الفارسية، والتركية التى زادت أطماعها مع الوقت، وطمحت إلى الاستئثار بالسلطة؛ مثل "الطونيين"، و"الإخشيديين"، و"الفاطميين"، و"الأيوبيين"، ثم المماليك، والعثمانيين، وفى العصر الحديث وهنت قوى "الرجل المريض"(دولة بنى عثمان)،  وأخذت الدول الأوروبية تقاوم القوات التركية مقاومة عنيفة في أوروبا الشرقية، وتدفعها دفعا الى الوراء فى محيطها الضيق داخل آسيا، كما أخذت تلك الدول تعمل جاهدة على تقطيع أوصال هذه الامبرطورية الاسلامية؛ "فانجلترا" تحاول تأمين طريقها الى الهند، والاستيلاء على قناة السويس، و"روسيا" تعمل على تمزيق تركيا لتجد لها مفذا الى الشرق الأوسط، والبحر المتوسط، و"فرنسا" تنافس كلاهما فى الاستيلاء على مصر، والشام، كما فعلت فى "حملة نابليون"، وعندما وجدت تركيا نفسها غارقة فى بحر ماله من قرار؛ استعانت بولاتها مثل "محمد على فى مصر" لدرء هذه الأخطار؛ فاستعانت به فى "حرب المورة" التى احتلت على غرارها القوات المصرية "جزيرة كريت"؛  ثم اخضاع المدن اليونانية، ولما رأت انجلترا  ذلك تدخلت بأسطولها الضخم لتحطيم الأسطول المصرى فى "معركة نفارين"، وعندما تمكنت القوات المصرية من هزيمة القوات التركية، والوقوف على أبواب القسطنطينية وقفت لها انجلترا بالمرصاد؛ لاعادتها الى مصر مرة أخرى، بعد أن استطاعت تأليب الدول الكبر ى عليها فى ذلك الوقت(روسيا – النمسا – فرنسا - بروسيا)، وبعد هزيمة الأتراك أمامهم فى "موقعة نصبين"، وموت "السلطان محمود" سنة 1839م..
   أكرهت انجلترا مصر على ترك سوريا؛ بعد تهديدها بضرب الإسكندرية، وإجبارها على التبعية لتركيا، وهذا ليس لسواد عيون تركيا، ولكن لدورها فى صد القوات الروسية عن الشرق الأوسط، واقصاء روسيا عن هذه المنطقة..
   ان سياسة انجلترا فى الشرق العربي  قامت على المؤمرات الاستعمارية، وشراء الذمم بالأموال، والتهديد باستخدام القوة، وبذر الفوضى، والاضطراب عن طريق جواسيسها، وعملائها(تعليق: تقوم أمريكا – وريثة انجلترا فى الاستعمار – بنفس الدور الآن)، حتى انتهى الأمر الى احتلالها لمصر، ثم انتهزت الفرصة بعد قيام الحرب العالمية الأولى، وانضمام تركيا لألمانيا للانقضاض على ما تبقى للعثمانيين من بلاد الشرق بالاتفاق مع فرنسا، فاحتلت الأخيرة سوريا، ولبنان بموجب اتفاقية "سايكس – بيكو" السرية التى فضحتها "الثورة البلشفية"..
   من هنا دعا "السطان عبد الحميد" الى مشروع "الجامعة الاسلامية"، وجعل داعيته الأول "جمال الدين الأفغانى" لراب صدوع دول الخلافة، بعد أن انهكت هذه الإمبراطورية قوى البلاد العربية، وخلفتها على شفا الهاوية، وتركت فيها حزازات،  وكلوما لاتندمل, وقلوبا تغلى بالحقد، والمرارة؛ فقد كان مركز الدولة الاسلامية "الحجاز"، "فالشام"، "فالعراق"، "فمصر"، ثم "تركيا"، وقد اتخذت طابعا محليا فى تركيا، ومن هنا كان ضعفها، وانتهزت الدول العربية الفرصة للافلات منها(تعليق: كانت هذه هى نقطة الضعف عندما انتقلت الخلافة من العرب الى الاتراك الذين كانوا فقط محاربين، ولم يكونوا سياسيين محنكين، أو لهم كياسة فى الحكم، واحتواء الشعوب حضاريا.. فلم يكن وراءهم "تاريخ"، و"لاحضارة" مثل العرب.. "الدين الاسلامى" فقط، وقد أخذوه أيضا من العرب)، وبالتدريج خفتت الدعوة الى الجامعة الاسلامية، بعد ظهور الدعوة لحزب "تركيا الفتاة" الذى تحرك فى خط التحرير من الارتباط بالعروبة (أصل الدين الاسلامى)..
    ويقول الدكتور "يحيى عويس" فى نفس الكتاب:
قامت التصرفات الاستعمارية على مبدأ سمو العنصر الأبيض، وتأخر العنصر الأسود، وقد أطلقوا اصطلاح "الاهالى Natives" على أصحاب البلاد الأصلين كناية عن التأخر، والخضوع للسادة الأوروبيين..
(تعليق: الخوف كل الخوف عندما تطلق أوروبا- ثم أمريكا حاليا - شعارا من شعاراتها.. فعندما أطلقت الثورة الفرنسية سنة 1789 شعارها المشهور "الحرية، المساواة، والإخاء" احتلت مصر سنة 1789، وعندما أطلقت أمريكا الدعوة الى حق "تقرير المصير للشعوب" سنة 1917 على لسان الرئيس الأمريكى "ولسن" قسمت الدول العربية بين فرنسا، وبريطانيا بنظام مبتكر للاستعمار سموه "الانتداب"، وفى هذه الأيام قادت أمريكا العالم تحت رئاسة "بوش الأب" نحو ما اسماه "بالنظام العالمي الجديد" احتلت بعدها أفغانستان، والعراق فى ضربة واحدة، بعد أن ضربت العراق مرارا، وأوهنتها اقتصاديا بالحصار، والمقاطعة، كما احتلت أفغانستان بعد أن ساعدتها  على طرد الروس، ومن ثم انهيار روسيا، والبقية تأتى)..
   ويقول الكاتب ان الاستعمار أطلق على "الثوار" فى البلاد العربية التى أشرأبت الى التحرير من الاستعمار، وحق تقرير المصير بأنها سلسلة من فوران "الشغب، والاضطرابات" التى تدفعها، وتحركها مصالح دول معادية، وأقليات تسعى للاضرار بمصالح الأمة(تعليق: ويردد هذا الكلام الآن حكام دول المنطقة، وكأنهم ربائب استعمارية)، كما كانت الدعاية الاستعمارية فيما بين الحربين أن الفاشية الإيطالية، والنازية الالمانية ممثلة فى حكومات ايطاليا، والمانيا، ثم روسيا الشيوعية بعد ذلك كانت القوة المحركة للاضطرابات، والحركات القومية المناهضة للاستعمار فى الشرق الأوسط، فليس أخطر على الحياة العامة، وعلى سياسة الدولة، ومصيرها من جهل قادتها، وسياسييها، وانشغال الأفراد بقضاياهم الخاصة، فقد سخر الاستعمار عملاء من أفراد جعل منهم طبقة حاكمة تساندها وزارتا الاستعمار فى لندن، وباريس، وهى قيادات طيعة لينة تخضع لما تمليه السياسة الاستعمارية..
   حاولت حركة "تركيا الفتاة" ضم بعض شباب العرب المتحمسين اليها قبل الحرب العالمية الأولى، وفى عام 1909 شعر قادة تركيا الفتاة بما سموه خطر القومية العربية؛ فأصدروا أوامرهم بمنع تكون الجمعيات غير التركية فى الدول العثمانية..
   كان لانتشار الثقافة أكبر الأثر فى سرعة انتشار الوعي، والنضوج السياسي، ومن الأدلة البينة على نشر الوعي القومي، والثقافة السياسية بين أفراد الشعب العربي –فى الفترة ما بين 1904  حتى نشوب الحرب العالمية الأولى – ذلك الازدياد الظاهر فى عدد من الجرائد، والمجلات فى الأقطار العربية المختلفة؛ ففي تلك الفترة زاد  ما نشر فى لبنان من 29 الى 168 جريدة، ومجلة، وفى سوريا من 3 الى 87، وفى فلسطين من جريدة واحدة الى 31، وفى العراق من جريدتين الى 70، وفى الحجاز من لا شيء الى 6، بالإضافة الى النشرات العديدة التى كان يقوم باعدادها، ونشرها جماعة من المهاجرين العرب الذين فروا من الاضطهاد التركى..
   أنذرت فرنسا الملك "فيصل بن الحسين" بالانسحاب فورا خلال 24 ساعة بعد أن كان قد انشأ حكومة عربية تحت  لوائه فى سوريا، وبثت جنودها، وعملاءها لقمع حركة الوطنيين، والمجاهدين السوريين، واستخدمت فرنسا كل الوسائل الوحشية لكبت روح الكفاح الوطني، كما لجأ عملاء الاستعمار الى فرض اللغة الفرنسية  فى المدارس إجباريا، وصودرت الصحافة الوطنية، واعتقل الزعماء الوطنيون، وأعدم الكثير من المجاهدين، وذلك منذ الانتداب الفرنسي حتى الاستقلال سنة 1945..
   ضمت انجلترا العراق الى مستعمرات التاج البريطاني لتقوم الثورة الوطنية فى30 يونيو سنة 1920، ولكنها لجأت للخداع على لسان "تشرشل" من القاهرة فى مارس 1921 الذى أوهم فيصل بأن انجلترا سوف تقيمه ملكا على العراق المستقلة، ولكنه حنث بوعده لفيصل، وبطش بشعبه؛ مما اضطر الى قبول الشروط البريطانية لعلمه أن أمام العراق رحلة طويلة من المقاومة الوطنية للتخلص من الاستعمار البريطاني، فقد كان الرجل الذي حارب  فى صفوف الجيش ضد الاستبداد، ووقف مدافعا عن حقوق العرب فى مؤتمر الصلح، ولكن بعد هذا الرجل الذي ألهب الروح الوطنية بث الإنجليز عملاءهم، والموالين لهم، مستغلين فى ذلك ذوى المصالح الشخصية، والإقطاعية لمساعدتها فى كبت الحركة الوطنية،  والإطاحة بقادتها، فنشأ الخلاف بين الوطنين المثقفين التقدميين، وبين الرجعيين المستفيدين من الأوضاع القائمة، علاوة على دس انجلترا المؤامرات، والمخاوف ببث الشائعات عن طمع كل من مصر، والسعودية  فى بسط نفوذ كل منهما على العراق، ولكن لم يخمد ذلك الثورة فى نفوس العراقيين مثل "ثورة رشيد على الكيلانى"، والثورة ضد "معاهدة بيفن- جيبر"، ثم الثورة الجامعة ضد "الحلف" التركي العراقي البريطاني، وضد سياسة "نورى السعيد"، وأخيرا الإطاحة بالأسرة المالكة، وحكومة نورى السعيد.. 
   ولجأت السيطرة البريطانية فى الأردن الى العنف، والقوة العسكرة المرابطة فى قلب هذا البلد الصغير لإقصاء الزعماء القوميين، وذلك منذ إنشاء "إمارة شرق الأردن" تحت  الانتداب البريطاني، كما استخدموا سياسة "المعونة المالية" البريطانية للأردن سلاحا لخنق الروح القومية فى البلاد مهددين دائما بقطعها، واهلاك الشعب جوعا اذا ماقامت له قائمة، أو أبدى استياء من التصرفات الاستعمارية البريطانية فى وجود "جلوب"، ومعاونيه ممن كانوا يتحكمون فى الجيش الأردنى، وتسميم أفكار الشعب بشتى ألوان الدعاية الكاذبة، ولكن كان التحدى الشعبى بطرد جلوب، وأذنابه..
   عملت السياسة البريطانية، والفرنسية على اهمال التعليم بوجه عام، والقضاء على التعليم الوطنى، ونشر الثقافة الاستعمارية فى المدارس الأجنبية، فلم تنخفض نسبة الأمية فى العراق عن 95 %، وفى مصر 90 %، وفى سوريا 80 %..
   كان العرب فى ظل الاسلام لايعرفون أساسا تعدد الجنسيات بمعناها القانونى، والسياسى الحديث؛ بل كانت قوميتهم(أو جنسيتهم) محكومة بالشريعة الاسلامية، وبالمبادىء الانسانية التى أوجدتها تعاليم الاسلام، وكان فى الشريعة الاسلامية مايكفى لتنظيم الناحية القانونية فى الحياة الاجتماعية، والعامة للأفراد.. فالشريعة الاسلامية، والفقه الاسلامى فى لغة علم الاجتماع تجمع بين فكرة القانون، وفكرة الدين فى الدولة الحديثة، ولم تكن التعاليم الاسلامية لتعرف، أو تعترف بالفوارق السياسية، والعاطفية التى تحرك القومية المحلية كما شاهدناها فى القرن العشرين، ولذا لم يكن الدولة الاسلامية الا قومية واحدة(أو بالمعنى الحديث جنسية سياسية واحدة)، ومن هنا حرص الاستعمار على فكرة التقسيم، وتعدد الجنسيات(بمعناها القانونى، والسياسى) بخلق جنسيات سياسية مختلفة، وذلك بتطبيق الناحية الادراية لنظام الانتداب، وجعل من الحدود السياسية حدودا فاصلة بين الفرد، والآخر لمجرد وجودهما فى أماكن تخضع لادارات، أو حكومات مختلفة..
   وحتى فى ظل الامبراطورية العثمانية كان للعرب جنسية سياسية واحدة هى الجنسية(أو الرعية) العثمانية، وليس ذلك من الناحية القانونية فقط؛ أى كون العرب خاضعين لسلطة واحدة هى السلطة التركية،وانما لأن العثمانيين أنفسهم دأبوا على استغلال فكرة القومية الموحدة فى الاسلام استغلالا سيكلوجيا، وسياسيا لتثبت أركان حكمهم..
   ولاينسينا هذا أنه منذ القرن الحادى عشر بدأت تنتشر الامبراطورية العربية تيارات انفصالية بين آونة، وأخرى – أى انفصال عن سلطة الخلافة – وكانت كلها تيارات تدفعها المصالح الفردية لولاية الأقاليم، كما كان يزيد من حدتها نزعة "الأسرة الحاكمة" التى خلفت لنا مانعرفه من تاريخ الدولة الاسلامية كالعباسية، والأموية، والفاطمية، وغيرها..
   كان من آثار التقسيم السياسى، والادارى للعالم العربى تعدد قوانين الجنسية.. فأصبحت وضعية مملاة من الخارج، بعد أن كانت خاضعة للشريعة الاسلامية؛ فوضعت القوانين المتباينة لتحديد الجنسيات التى تبعتها الحدود السياسية التى رسمها الاستعمار، وظلت السعودية هى الدولة الاسلامية الوحيدة التى بقيت على نصوص الشريعة الاسلامية فى "قانون الجنسية الحجازية" الذى صدر عام 1926 حيث نصث "المادة الرابعة" منه على جواز اعطاء الجنسية لكل مسلم يقيم فى الحجاز 3 سنوات، كما نصت "المادة الخامسة" من نفس القانون على حق الحكومة فى اعطاء الجنسية لكل مسلم ترى أنها تستفيد من خدماته..
   ويعجب الكاتب من النفوذ الصهيونى فى صحافة الدول بما أوتى من أموال، وموارد، وقدرة مالية تتحكم فى الصحف، وتحريرها، ويتساءل: هل يقع الكتاب تحت ضغط الصهيونية فى بلد كالولايات المتحدة، ونقول: بل ويقع رئيس الدولة.. فما بال الصحافة!ّ..  
   ثم يشرح الدكتور "ناصر الدين الأسد" فلسفة الاستعمار فى نفس الكتاب بأن الاستعمار الأوروبى الحديث بدأ منذ أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، ومطلع القرن السادس عشر، وهو عصر الكشوف الجغرافية، حين امتلأ خيال أوروبا بسحر الشرق، ولياليه، وبذخه؛ فشد إليه الرحالة المغامرون أشرعة مراكبهم ليروا بأعينهم ما سمعوه، وينقلوا منه لبلادهم الحرير، والجواهر، والعطور، والبخور، والبهار، والتوابل، وسائر أدوات الزينة، ووسائل الترف، واتجهت إليه أنظار الأمراء، والملوك ليضيفوا الى أملا كهم بلادا جديدة, وساعدهم رجال الدين من المبشرين الذين ينشرون تعاليم المسيح, ويشيعوا فى نفوس ساكنيها الطمأنينة لهؤلاء الوافدين عليهم, وكسب ولاءهم، كانت الهند فى مهبط هذه الأحلام, ونظرا لمنعة الطرق اليها؛ اذ كانت تقع فى حماية الدول الاسلامية مرهوبة الجانب حتى استطاعوا تجنب هذه الطرق باكتشاف طريق "رأس الرجاء الصالح" حول أفريقيا, وبدأت دول البرتغال, وأسبانيا، تتبعها انجلترا, وفرنسا, وهولندا، ثم بدأ "عصر الآلة", وما تبعه فى أوروبا من "انقلاب صناعي", وفائض كبير يحتاج لأسواق خارجية، وما تحتاجه الصناعة من خامات, ومواد أولية أكثر كثيرا مما هو موجود فى بلادهم, وتحت هذا الضغط كان لابد للوصول الى هذه البلاد البعيدة من تقصير السبل اليها, ومن ثم احتلال سواحلها, ومن هنا بدأ النظر بإمعان الى تلك البلاد التى تمر فيها الطرق القربية الى تلك السواحل, ومن ثم ذلك الثأر القديم المتجدد بين هذا الوطن, وبين أوروبا الذى كان فى فورته ابان القرنين الحادي, والثاني عشر الميلاديين..
   بدأت فرنسا "بالحملة النابليونية" على مصر سنة 1798م، ثم احتلت "الجزائر" سنة 1830م، ثم شقت "قناة السويس" بعد ربع قرن من احتلال الجزائر، وهذه القناة كانت أول كسب يناله الاستعمار الأوروبى فى وطننا العزيز، وذلك لهدفين: الأول: تقصير السبل الى المستعمرات الأوروبية فى الشرق، والثانية: فصل الجناحين للنسر العربي الأيمن عن الأيسر؛ فاحتلت فرنسا "تونس" 1880م، كما احتلت انجلترا "مصر" سنة 1882، واحتلت فرنسا "مراكش" سنة 1912م، وايطاليا "ليبيا" فى نفس السنة..
الغزو العلمي:
   قامت طائفة منذ قرون فى أوروبا سميت "المستشرقين" لدراسة أحوال بلاد الشرق من جميع النواحي، فعكف البعض منهم فى بلادهم يدرسون كتبنا، وتاريخنا، ولغتنا، وأدبنا، وديننا، وفقهنا، ومجتمعنا، ووفد البعض الى بلادنا بعدة طرق؛ اما قناصل لدى "الدولة العلية"، أو لدى "الدولة العلوية" فى مصر خاصة، وإما سياحا معرضين أنفسهم لأخطر المهالك، والبعض أعلنوا إسلامهم، وأقاموا بين ظهرانينا، وارتدى آخرون مسوح الرهبان، ورجال الدين فى الأديرة، والكنائس فى بلادنا، وأنشأوا المدارس، والمستشفيات، والجمعيات  الخيرية الطائفية..
   درسنا هؤلاء دراسة دقيقة مستفيضة، فعرفوا ماضينا، وحاضرنا ، وأثارنا، ونقوشنا، ومخطوطاتنا، ونقلوا مااستطاعوا أن ينالوا بالسرقة، أو الاهداء، أو الشراء الى بلادهم، ووضعوها بين أيدى هؤلاء الذين  بقوا فى بلادهم عاكفين على دراستها..
   عرفوا طبقاتنا الاجتماعية، والاقتصادية، وطوائفنا الدينية، وفرقنا المذهبية، ولهجاتنا المحلية، ثم درسوا أرضنا، وعرفوا طرق مواصلاتنا، وثرواتنا الزراعية، والحيوانية، والمعدنية، وكتبوا التقارير، والكتب، ووضعوها فى أيديهم، وبدلوا غزوهم الذى صرفنا همنا نحوه لمحاربته،واجلائه عن ديارنا، ونسينا أن الغزو العسكري ليس غاية فى ذاتها، وإنما وسيلة لتحقيق أهداف الاستعمار التى لو تحققت يجلو الجندي الغازي، ويبقى الغازي نفسه..
   ولما كان الغزو العسكري ككيان مادى يثير الضغينة، والحقد، ويدفع بالتالي الى المقاومة، والقتال مما يهدد المصالح الاستعمارية؛ عمدوا الى القضاء على مقاومات البلاد، واقتطاعها من جذورها، وزرع جذور أخرى من تربتهم يتعهدونها بالرعاية حتى تنمو نموا غير طبيعي لا يلبث أن يحتاج الى علاج جديد، فتحقن صناعيا، وتطعم بالمستورد من الغذاء(تعليق: يعني أنه يزرع مشكلة لاتمثل لنا أى مشقة؛ فنهرع اليهم من أجل الحل, فيبادروا بالحل الذى ماهو المشكلة أخرى جديدة, وهكذا نظل فى دوران لانهائي فى فكلهم لتنتهي حياتنا بلا طائل, بعد استنفاد طاقتنا, وجهدنا)..
   عرف الاستعمار القوى الكامنة فى هذه الأمة فقسمها دولا, ودويلات، جعل لكل منها حكومة تقيم الحواجز, والمتاريس، فلا ينتقل شعب الى  الآخر الا بجواز مرور،  كما فرضت حظرا على تبادل السلع الا بالمكوس, وسكت فى كل قطر عملة, ونقدا غير المجاور له, ومن ثم نشأ اقتصادا متميزا, وجندا مستقلا, وألوانا من التعليم,  والثقافة, وجعلت فى كل قطر حكاما تحيطهم شلة من المنتفعين ارتبطت مصالحهم  بالحفاظ على هذه الأوضاع..  
   بدأ المستشرقون بركام هائل من الدرسات, والمؤلفات عن الدين الاسلامى أولا, بعد أن علموا أنه ركن أصيل من مقومات هذه الأمة, ملبسين هذا كله ألوانا من العلمية الخادعة، بحثوا فى القرآن, وأخذوا منه المتشابه، والمنسوخ, واستقصوا الأخبار الضعيفة, والرويات الشاذة, واتخذوا من المفردات قواعد, ومن الخبر الخاص حكما عاما, وطرزوا أبحاثهم بدراسات مقارنة دينية, وتاريخية، ووشوها بدراسات سيكولوجية, وبيولوجية, وجنسية عن حياة الرسول, والصحابة, وأصدروا فى ذلك كتبا، وأبحاثا ظاهرها المنهج العملي السليم، والبحث الجامعي العميق، ودرسوها فى جامعاتهم مترجمة، وغير مترجمة، وتلقفناها منهم مشدوهين مبهورين، وعملنا على نشرها، وإذاعتها، والافتتان بها حتى سرت فينا سمومهم، وصرنا نفكر بعقولهم، ونبحث بطريقتهم، ونؤلف على غرارهم، حتى اذا اطمأنوا؛ اختفوا، وصدورنا فى الميدان..
   وكما فعلوا فى الدين الاسلامى فعلوا أيضا فى اللغة العربية التى هى لغة الاسلام، والقرآن حتى بلغوا الخلاصة، وهى أن الأمة العربية كانت جاهلة، بدائية، كانت تقيم فى الصحراء، اضطرت تحت وطأة الظروف الاقتصادية، والاجتماعية الى غزو البلاد المجاورة بقوة السيف، واستعمارها، أما أدبها(اللغة العربية) فهو سطحى، لاقيمة له، وهى لغة معقدة مختلفة،غير نامية، عاجزة عن مسايرة ركب الحضارة، والحياة الحديثة، أما اللهجات المحلية العامية فهي تطور تام طبيعي يجب أن يصبح لغة مكتوبة..
   وحتى لا يكونوا مكشوفين، ومهاجمين فقد اقتضت الحبكة التمثيلية توزيع الأدوار بحيث يصبح فريقا منهم منتصبا للدفاع عن العروبة، والاسلام، ومخاصما لزملائه المهاجمين لزيادة القلق، واشاعة البلبة، والاضطراب، واكتساب المعجبيين من العرب ذوات العقول المنبهرة، ولا مانع من بعض الأمجاد،والمآثر الخائبة على نظام دس السم فى العسل، وذلك بنشر بعض المؤلفات العربية التى لا تتجاوز مؤلفات المتصوفة من المنصرفين عن الدنيا، وكان نصيبنا من هذا كله ضحايا هذه الخطة المحكمة، والمدروسة من خيرة مفكريها خلع ملابسهم، والقاء أنفسهم فى خضم الشك، والقلق، والاضطراب الفكري انتهى بالبعض الى الجحود، والانكار، والكفر بهذه الأمة دينا، وماض، ولغة، وتراثا، ومن بقى فى نفسه فضل من ايمان، واعتزاز خشى المجاهرة به حتى لا يوصف بالرجعية، والتأخر،والجمود..
   أما "حبيب جاماتى" فهو يتحدث عن القومية العربية، والاستعمار الفرنسي فى نفس الكتاب، ويرى أن عامل الدين كان هو السبب الأول فى انبعاث الحروب الصليبية، ويرى أن عهد الاستعمار قد بزغ خلال القرن الثامن عشر الميلادي بعد أن فتحت أمام الغرب سبل المواصلات مع الشرق، وزادت شهية الغربيين لالتهام الخيرات التى كانت من نصيب الشرقيين فى ذلك الوقت، فوضعت الأمم الأوروبية إمكانياتها الحربية فى خدمة مطامعها التجارية..
   قام بونابرت بحملته على مصر سنة 1798م، وكانت موجهة ضد تركيا  فى الواقع، وضد الإنجليز فى الخفاء الذين كانوا يسعون الى السيطرة على طريق الهند، حيث ثبتوا أقدامهم، وكانت تلك الحملة فى نظر المؤرخين هى بدء الحروب الاستعمارية فى البلدان العربية التى كانت لاتزال تابعة للإمبراطورية العثمانية؛ ففي مايو سنة 1798، أبحر نابليون  من ثغر "طولون" متجها بجيشه نحو مصر، بعد أن تبين أن الامبرطوريات الكبرى فى التاريخ لم تتحقق، وتكتمل عظمتها إلا بالاستيلاء على مفاتيح الشرق الأوسط ، والشام؛ فكان هدفه الأول الاستيلاء على مصر لشق قناة فى برزخ السويس لوصل البحرين الأبيض، والأحمر، وتمكين الأسطول الفرنسي من التحكم فيهما، وطرد الإنجليز من الشرق، والاستيلاء على مصالحهم التجارية، والسياسية فيه، وقد أرعبت الإنجليز هذه الخطوة كما أرعبها اتصاله ببعض أمراء الهند، والجزيرة العربية، وأمير مسقط، فما كان من الإنجليز إلا الإسراع باحتلال المواقع التى تتحكم فى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر لأخذ الطريق على نابليون اذا أراد التسلل جنوبا؛ فاحتلوا "جزيرة بريم" التى تتوسط تقريبا "مضيق باب المندب"، واحتلوا الثغر اليمنى "عدن" سنة 1799، ثم فرضوا حمايتهم على بعض  المشيخات، وتسمى  بالمحميات، واحتلوا "جزيرة موريس" القاعدة الفرنسية الحربية على الطريق الى جنوب أفريقيا، وعقدوا معاهدتين بالضغط، والإرهاب مع أمير مسقط سنة 1798، وسنة 1800 لغرض نزول القوات الإنجليزية فى مياه مسقط، وموانيها على جانبى "خليج هرمز"، وحولوا الوكالات التجارية التابعة "لشركة الهند" الى وكالات سياسية تتبع الحكومة الهندية ، كما أقاموا وكالة سياسية لهم فى "بغداد" سنة 1798..
   سقط نابليون، وانهار عرشه بعد أن خرج من مصر، ورجعت مرة أخرى الى الدولة العثمانية، ثم تولى الحكم فيها محمد على باشا، وأسرته من بعده، وعادت الملكية الى فرنسا، فراحت حاشية الملك تبحث عن مشروعات يشغلون بها الرأى العام؛ فضلا عن القوات المسلحة، فلم يجدوا سوى شن حروب استعمارية، وكسب ممتلكات فيما وراء البحار..
   كانت الجزائر هى الهدف القريب منهم، والبعيد فى نفس الوقت عن قلب الدولة العثمانية، وأقل مناعة فقرروا  مهاجمتها  بافتعال حادثة تطاول فيها قنصل فرنسا فى الجزائر على حاكمها(تعليق: كان من أسباب اختراق الدولة العثمانية قبولها نظام "القناصل" فى ممتلكاتها فضلا عن "الرحالة"، و"الجواسيس" لو كانوا من أوروبا، وقاومت النوابغ من أهل البلاد)؛ فضرب الحاكم بمنشة كان يحملها الأمير الذى تذرعت به فرنسا لإرسال حملة عسكرية لاحتلالها بحجة غسل الإهانة(تعليق: ورد فى مذكرات "القنصل الأمريكى" فى ذلك الوقت دوره الجاسوسي، والاستخباراتى فى مساعدة فرنسا بإطلاعها على النقط الضعيفة لجيش الجزائر لتسهيل دخولهم اليها،واحتلالها)..
   حدث هذا سنة 1830 خلال حكم الملك "لويس فيليب"، وقد أحرز الفرنسيون سلسلة من الانتصارات بادىء الأمر، ولكن القبائل العربية فى الجزائر وحدت كلمتها، وجمعت صفوفها بقيادة البطل الخالد الأمير "عبد القادر بن محي الدين"؛ فاستمرت الحرب بين الوطنيين المجاهدين، والفرنسيين المعتدين سنوات عديدة، ولم يكن الأمير عبد القادر يحارب باسم العثمانيين الذين لم يحركوا ساكنا؛ بل بقوميته العربية؛ فهو أول زعيم عربي قاوم الاستعمار الغربى..
   دارت مفاوضات بين محمد على باشا والى مصر، وصديقه لويس فيليب ملك فرنسا فبيل احتلال الجزائر؛ بغرض التعاون بينهما فى عملية الاحتلال، واقتسام الغنيمة، ولكن محمد على آثر الاتجاه شرقا لانتزاع سوريا من الترك لحسابه الخاص بدلا من الزحف غربا للاشتراك مع فرنسا التى احتلت السواحل الجزائرية، ثم واصلت التغلغل فى الداخل، وبعد منتصف قرن فرضت الحماية على تونس بموجب معاهدة سنة 1881، وذلك بعد خروج فرنسا مهزومة فى الحرب المشهورة سنة1870 مع المانيا، وكانت كارثة على فرنسا خرجت منها مهيضة الجناح، مفلسة، فكان التعويض حملة استعمارية الى الصين الهندية، ثم حملة أخرى الى البلاد التونسية..
    لم تكن فرنسا لتستطيع العمل وحدها فهي دولة، والغنائم كثيرة، ومثيرة؛ فتم الاتفاق مع عدوتها اللدود انجلترا سنة 1904..
   بعد هذه المعاهدة قسمت الغنائم، وتغاضى كل طرف عن الآخر فيما أحرز منها، وبدأ الفرنسيون  يتدخلون فى شئون المغرب المستقلة، وتحول تدخلهم الى احتلال؛ أسفر عن معاهدة الحماية سنة 1912، وكان لاتفاقية 1904 ذيول، وتوابع؛ فقد قامت "الثورة العربية" الكبرى على الدولة العثمانية بقيادة شريف مكة "الحسين بن على" الهامشي سنة 1916، بموجب مفاوضات مع الشريف حسين بلسان عميدهم فى مصر "مكماهون" فى أوائل الحرب العالمية الأولى، فحالف الإنجليز العرب، وحالفهم الفرنسيون أيضا، ولكن الحلفاء خانوا العرب، واقتسموا بلادهم بعد أن تعهدوا بأن يساعدوهم فى جعلها دولة مستقلة، وفى سنة 1917  جاء الإنجليز باليهود، وأحلوهم مكانهم فى فلسطين بحجة إنشاء وطن قومي لهم عملا "بوعد بلفور"، واحتلت فرنسا سوريا، ولبنان سنة 1919.. 
   وكتب الأستاذ "عبد المنعم خلاف" عن القومية العربية، والاستعمار الانجليزى فى نفس الكتاب:
   اجتاحت موجة المد الاستعمارى التى غمرت الشرق، وقضت على الإمبراطوريات الاسلامية الثلاث الأخيرة، وهى إمبراطورية "المغول" فى الهند، والإمبراطورية "الفارسية" فى هضبة إيران، والإمبراطورية "العثمانية" فى أوروبا، والشرق الأدنى، والشمال الأفريقى؛ فعوقت النمو الطبيعي للحضارة فى الشرق، وقضت على علامات الشرف، وحرمة المواثيق، ونبل الفروسية، وقيم الأخلاق، ورأت بها الأقوام المتخلفة وجه المنية الغربى فى إطار فى الجفاف الروحي، والفساد الخلقي، واشاعة الشهوة، والجريمة، والاغتصاب فنفرت منه، واستعصمت بفطرتها، وبساطتها(تعليق: انفتح المجتمع العربى الآن على وسائل معيشة، وأنماط من الاستهلاك السلعى جاءت مع رجوع الرأسمالية مرة أخرى الى المجتمعات العربية، الاسلامية دون تأهيلها للاشتراك الفعلى فى انتاج هذه السلع، فجعلوا دورها لايتخطى الاستهلاك، واستنزاف أكبر، وأكبر للثروات، والاحتياطيات لشراء هذه الرفاهية، وهو ما يعتبر من مساؤى النظام الرأسمالى ذو السوق المفتوح، مع عدم وجود ضوابط أخلاقية أو حتى نمطية تحكم هذا السعار للمال؛ فأصبح كل شىء يباع، ويشترى؛ حتى الإنسان، وقيمه)، وكان الادعاء الاستعمارى هو الرسالة التاريخية التى قام بها الرجل الأبيض للتمدين، وإنهاض الأجناس "المتخلفة"، ولكن هو بناء الإمبراطوريات بالغدر، والتخفي، والانقضاض على أرض المسالمين، الآمنين فى القرن الخامس عشر..
   وما لعدوان الثلاثي سنة 1956 إلا حلقة من هذه الحلقات من أجل قناة السويس، وهى الشريان الأكبر الذى طالما أدى خدمات للمستعمرين، وجنايات على شعوب الشرق، وعلى النقيض حمل العرب رسالتهم فى قوافلهم، وجيوشهم البرية، والبحرية الى الشرق، والغرب، وأسسوا دولا، ومراكز إشعاعية، وتجارية لثقافتهم، ورسالتهم، ونشاطهم الاقتصادي، وغيروا وجه الأرض بهداية الدين، وتمدين العلم، وعملية الخلط، والمزج بين الحضارات، والأجناس..
   أخذ الأسبانيون، والبرتغال علوم العرب البحرية بعد أن أصاب العرب داء الأقوام؛ وهو الفرقة، والترف، وصاروا بها يبحثون عن طرق ملاحية جديدة غير تلك الطرق التى تمر ببلاد العرب، والمسلمين ليصلوا بها الى مصادر تجارة الشرق؛ فاتجه الأسبان الى اقتحام المحيط الاطلسى(بحر الظلمات) سنة 1492، وبادر "كولومبس" بالاتجاه غربا للوصول الى الهند، والشرق اقتناعا "بكروية الأرض" التى أخذها عن جغرافي العرب بالأندلس، وصقلية..
   واتجه البرتغاليون سنة 1497 نحو الشرق، والهند عن طريق الالتفاف حول أفريقيا – رأس الرجاء الصالح – على يد "فاسكو دى جاما"، فأثارت هذه الاكتشافات شهية أوروبا؛ فابتدأت القرصنة، وتحولت الى عمليات مشروعة مبررة، وغزوات مدروسة منظمة، فتأسست "الشركات التجارية" مدفوعة بتعليلات اقتصادية، ودينية، وجنسية اتخذها الرجل الابيض ذريعة للاستعمار الحديث..
   فكما استفاد الغرب من الغرب الاسلامى، وصقلية؛ استفاد منه أيضا فى الشرق عبر الحروب الصليبية متزودا بتجارب، ومعارف، ومعلومات وافية من ثروات، وامكانيات، مادية، وبشرية كانت هى الأشعة الأولى من فجر نهضته..    
   كان الملك "هنرى الثامن" أول من بنى لهم أسطولا كان أداة مجدهم، وشجعت الملكة "اليصابات" حركات قراصنتهم، ومغامريهم، فصاروا يتتبعون سفن الدول التى تقدمت عنهم فى هذا المضمار مثل البرتغال، وأسبانيا، وهولندا، ويعتدون عليها، وعلى مراكزهم التجارية حتى أسسوا "شركة الهند الشرقية" سنة 1601، وفى سنة 1607 حصلت هذه الشركة على تصريح من امبرطور المسلمين فى الهند بإقامة وكالة لها على "ثغر سورات" على الساحل الشمالى الغربى للهند، وما زالوا كذلك يعقدون المعاهدات مع المغول، والامارات الهندوكية، والاسلامية حتى تحول النفوذ التجارى الى نفوذ سياسى، ودخلت الهند فى طورها السياسى، والعسكرى سنة 1784 بعد أن انتهت حرب "الاستقلال الامريكية" بهزيمة انجلترا، وبدخول الهند فى حوزة الانجليز تقرر مصير البلاد العربية، والاسلامية التي تقع على الطريق إليها، وكانت الإمبراطوريتان العثمانية، والفارسية المسلمتين هما أكبر تهديد لسيطرة الانجليز على الهند بقوتهما، وباتجاه مسلمي الهند نحو الخلافة الإسلامية فى تركيا، فعملت على تطويق الامبراطوريتين عبر الخليج العربي، أو الفارسي باستغلال الظروف، وأعراض الانحلال فى هاتين الإمبراطوريتين، وإقصاء كل نفوذ أوروبى أخر..
   يرجع نفوذ الانجليز فى العراق الى سنة 1763 حين استعان أحد ولاة الأتراك فى بغداد بسفن وكالة الشركة الإنجليزية فى البصرة لإخضاع القبائل الجنوبية التي تقوم بقطع طريق التجارة بين البصرة، وبغداد، ومن هنا العلاقة بين الانجليز، وهؤلاء الولاة حتى صار لهم رأى مسموع فى تعيين هؤلاء الولاة، وصارت لهم مصالح، وحقوق فى حماية زوار المزارت المقدسة من الهنود، والإشراف على توزيع ريع الأوقاف المحبوسة على هذه المزرات، وحماية التجار، وشركات الملاحة الداخلية التي أسسوها لنقل التجارة والبريد فى دجلة، والفرات..
   شجع الاقتحام النابليوني لقلب الدولة العثمانية فى مصر انجلترا على التسلل إليها عبر أسطولهم الى رشيد سنة 1807 للاستيلاء عليها، والانحدار منها الى الداخل، ولكن فشلت الحملة بفضل المقاومة المصرية الشرسة فى رشيد؛ ومن هنا كانت هاتين الحملتين ايذانا باختراق الامبرطورية العثمانية، واختبار قوتها، وسرعو انقضاضها؛ فبدأت الدولتان العمل على تفكيكها بتحرير الأجزاء الأوروبية المسيحية من سلطانها، وتشجيع حركاتها الاستقلالية، وكذا الاستيلاء على بعض الأطراف الإسلامية النائية منها..
   ربط الانجليز امارتى "قطر"، و"البحرين" بمعاهدات سنة 1820 تدرجوا بها كالعادة؛  حتى أصبح لا يبت فى أمر داخلي لهما بدون العرض على "المعتمد البريطاني" فى الخليج..
   استلقت "اليونان" سنة 1829، و"الصرب" داخليا فى نفس السنة، واحتلت فرنسا الجزائر سنة 1830م، واستقلت ولايتا "ملدافيه" ، و"لاشيه – رومانيا – داخليا سنة 1856، واستقلت الصرب تماما سنة 1878، و"كريت" سنة 1896, واحتلت فرنسا تونس سنة 1881, وانجلترا مصر سنة 1882, وفرض الانجليز معاهدة على سلطان "مسقط" سنة 1891, وسنة 1892 عقدوا معاهدات مع مشيخات الخليج الفارسى, وإماراته لنفس الغرض الاحتكاري تجاريا, وسياسيا لقطع الطريق على أى قوى أخرى، كما عقدوا معاهدة مع "الكويت" سنة 1899 كالمعاهدات السابقة مع شيوخ "ساحل القرصان"، وسمى منذ ذلك الحين "ساحل الصلح"، ثم ثبت مركزهم بالكويت نهائيا سنة 1901 باعتراف الأتراك, فأنشأوا بها وكالة سياسة سنه 1914، لعبت دورا خطيرا فى الدعاية لهم جنوب العراق..
   وعند احتلالهم مصر بالقوة, والدس, والخيانة, والتفريق, والرشوة وقعت كبرى كوارث العالم الاسلامى بالاستعمار؛ كما عبر عن ذلك المصلحان الثائران "جمال الدين الأفغانى", و"محمد عبده", فصارت القاهرة دار المعتمد السامي البريطاني مكانا لإثارة السخط بين العرب، والعرب, والأتراك، والعرب ضد حركة "التتريك" والتي كان لها أكبر الأثر فى "حديث الاستطلاع" بين "عبد الله بن الحسين", واللورد "كتشنر" فى أغسطس سنة 1914, ثم "حديث التفاهم" بين "الشريف حسين", والجنرال "هنرى مكماهون" المعتمد البريطاني فى القاهرة سنة 1915 على مصير العرب باقامه "مملكة عربية" بعد طرد الأتراك, وخلع ولاءهم الديني، والسياسي لخليفتهم، ودولته أعقبه اتفاق "سايكس – بيكو" سنة 1916, وإعطاء "وعد لليهود" باقامة وطن قومي لهم فى فلسطين لإسكان يهود العالم، وتشريد العرب..
   تأكد للعرب بعد ذلك ان هذه "غزوة صليبية جديدة" استخدموا فيها ضد دولة الخلافه الإسلامية؛ بعد أن أذاع الجنرال اللنبى عند دخوله القدس منشورا أعلن فيه "نهاية الحروب الصليبية", كما صرح الجنرال "غورو" قائد قوات الاحتلال الفرنسي لسوريا؛ وهو يضع قدمه على مقدمة قبر صلاح الدين بدمشق قائلا:"هاقد عدنا يا صلاح الدين"..
    قامت الثورات فى الوطن العربي فى مصر سنة 1919, وعندما تخلى الانجليز عن فيصل بن الحسين فى سورية بسماحها لفرنسا باحتلال سوريا بمقتضى "اتفاق سان ريمو" فى 25 أبريل سنة 1920 خرجت بقايا جيش فيصل فى سوريا بقيادة البطل "يوسف العظمة" لملاقاة الفرنسيين فى "وقعة ميسلون" بقيادة الجنرال غورو, ودار القتال حتى استشهد البطل, وأكثر رفاقه فى 24 يوليو 1921, وكانت هذه الموقعة بعد اعلان أئمة الدين الجهاد فى يوليو سنه 1920, ولم تهدأ النفوس الا بعد تنصيب "فيصل الأول" على عرش العراق؛ بعد أن أخرجه الفرنسيون من سوريا، فتولى فيها الادارة بدلا من إنجلترا الذين حكموها حكما مباشرا, ثم مقنعا بالمستشارين..
   وقع أول اضطراب بفلسطين التي انقلب فيها الاحتفال "بموسم النبي موسى" فى القدس (4 - 8 أبريل سنة 1820) الى مصادمات بين العرب, اليهود, والإنجليز بعد أن أعلن حاكمها العسكري "بولز" عزم الحكومة الإنجليزية قبول "الانتداب" على فلسطين بما فيه من إجراءات لتنفيذ وعد بلفور للصهيونيين..
   تتابعت الثورات فى هذا الوقت كثورة "الهند", و"آيرلندا", و"تركيا الكمالية", وثورة "الريف المراكشى" بقيادة البطل الأمير "عبد الكريم الخطابي"؛ اضطر الانجليز الى التقهقر بالمفاوضات, والمؤتمرات, والاتفاقات؛ فكانت المعاهدة مع العراق سنة 1930, ومصر سنه 1936, وشرق الأردن سنة 1928, وخرجت فرنسا من سوريا ,ولبنان سنة 1946 تحت الضغط الدولي متمثلا فى "مجلس الأمن"؛ بعد أن ضرب الفرنسيون أهالى دمشق، وحمص، وحماة بالقنابل، وتسليط نيران المدافع على دار "المجلس النيابي" بدمشق سنة 1945..
   قام الانجليز بدور الستار "للوكالة اليهودية" فى تنفيذ أوامرها، وخططها الرامية الى تهويد فلسطين، وطرد العرب, وجلب اليهود, وذلك باللجان, والوعود, والمؤتمرات, وقمع الثورات بالفرق الإرهابية المسلحة، والدفاع عنهم فى منظمات الأمم المتحدة, وحتى يغطوا انسحابهم, وتسليمهم فلسطين لليهود؛ دفعوا بالقضية الى الأمم المتحدة لتدويلها, وإحراج العرب؛ فصدر "قرار التقسيم" فى نوفمبر سنة 1947, وفى 14 مايو سنة 1948 أنهى الانجليز انتدابهم على فلسطين ليعلن اليهود قيام دولتهم فى اليوم الثاني مباشرة؛ بعد أن عملوا على توطيدها بالإرهاب؛ كما حدث فى مذبحة "دير ياسين" التي قتلوا فيها 250 نسمة, ومثلوا بجثثهم فى 10 ابريل 1948, و"بقرية ناصر الدين" التي أحرقوها، وقتلوا جميع سكانها تحت سمع, ونظر البريطانيين؛ مما اضطر "الجامعة العربية" الى الإسراع بنجدة عرب فلسطين، وإقرار الأمن بإرسال "الجيوش العربية" للاشتباك مع القوات الصهيونية فى معارك 1948, ثم إقرار "الهدنة" سنة 1949 بضغط من الأمم المتحدة , كما عملوا بعد ذلك على التمكين لليهود فى فلسطين؛ بفرض "قيود التسليح" على العرب بموجب التصريح المشترك الصادر من أمريكا, وانجلترا, وفرنسا سنة 1950 ليضمنوا تفوق إسرائيل العسكر، وقد ظهر البترول فى بلاد العرب لتكتمل مأساة المطامع؛ فالبترول عصب الصناعة, والقوة العسكرية، والصهيونية مالكه بيوت التحويل, والتصنيع, والصحافة, والتجارة, والإرهاب؛ اضافة الى سلطانها الروحي على بعض العقول, والقلوب باستغلال بعض الأساطير..
   ويقول "عبد القادر حاتم" عن القومية العربية فى الميزان:
   أم مصالح الاستعمار فى الشرق الأوسط ليست استراتيجية، أو حيوية؛ بل مسألة حياة، أو موت، ولا خيار؛ فقد شاهد العالم نتائج إغلاق قناة السويس على كبرى الدولتين الاستعماريتين بريطانيا، وفرنسا؛ إذ أفلستا اقتصاديا، وتوقفت مصانعهما, وغدت مدنها مهجورة؛ فضلا عن العاصمتين الكبيرتين بعد أن تعطلت السيارات، وكاد البرد يقضى على أهلها (تعليق: حدث هذا أيضا شتاء سنة 1973 حينما منع العرب البترول عن أمريكا، وأوروبا بقيادة الملك "فيصل بن سعود")..
   حاول الاستعمار أن يخلق لنفسه جيلا من أبناء المنطقة يتشربون ثقافته حتى يتحولوا عن مصالح بلادهم.. 
   أما "أنور الجمل" فيتحدث عن القومية العربية، وإسرائيل، وعن الادعاءات الاستعمارية فى النفوذ، والسيطرة، والحرب، والدمار للعباد من أجل نشر الديمقراطية، والحرية، والسلام(تعليق: وهكذا تطلع علينا أمريكا هذه الأيام بنفس البضاعة القديمة وماأشبه الليلة بالبارحة)، ولم يكن وعد بلفور ثمنا للجهود المبالغ فيها التى بذلها اليهود فى الولايات المتحدة لتدخل الحرب الى جانب الحلفاء؛ فلم تكن المصالح الحقيقية للولايات المتحدة خاضعة للصهيونية العالمية فى ذلك الوقت؛ بدليل ماكان من معارضة كثير من اليهود فى انجلترا، وأمريكا "لفكرة الوطن القومى" اليهودى خشية أن يفقدهم مالهم من امتيازات, وحقوق, ومصالح فى البلاد التى يقيمون فيها، كما لم يكن وعد بلفور ثمنا لمساهمة اليهود فى الحرب بأموالهم؛ بسبب أن أكبر عدد منهم كانوا من اليهود المعارضين لفكرة الوطن القومى، وهذه الدعايات هى التى عمل اليهود على نشرها، والترويج لها..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق